قضايا وآراء

حراكٌ دبلوماسي وتبدلٌ في المزاج الشعبي: كل الطرق تؤدي إلى دمشق

| فرنسا- فراس عزيز ديب

رُبما، ولولا إعادةِ فتح معبر نصيب بين الأردن سورية والسجال الحاصِل على مواقِع التواصل الاجتماعي حول ماهية العاصمة التي كانت محاصرة، هل هي دمشق أم عمان؟ لقلنا: إن الحدث السوري تقريباً اختفى عن تغطيةِ وسائل الإعلام العربية والعالمية.
لكنّ هذا التراجع للحدث السوري إعلامياً قد يكون مردُّه لتراجعِ حدة المعارِك من جهة، ومن جهةٍ ثانية لتلهي قنوات الفتنة وإعلامييها بالسُّباب على بعضهم البعض بين مدافعٍ عن مملكة المناشير أو مدافعٍ عن «لصِّ حلب»، وحال المواطن السوري يقول: «اللهم اضرب الظالمين بالظالمين»، لكن هذا التراجع الإعلامي لا يبدو ذاتهُ من الناحيةِ السياسية، فالحراك الدبلوماسي على أشدُّه، حِراكٌ هو بالحقيقة «حِراكات» دبلوماسية جميعها ترفع شعار «كل الطرق تؤدي إلى دمشق»، فما أبرزها؟
أولاً:الحراك الروسي: مصالحات عربية ـ عربية أم تسهيل لـ«اللجنة الدستورية»؟
قبلَ أيام أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الرئاسة الروسية وجهت دعوة للرئيس بشار الأسد لزيارة روسيا، هذه الدعوة وإن جاءت بعد زيارة رئيس جمهورية القرم لسورية، إلا أنها في النهاية تحملُ طابعاً من نوعٍ آخر تُحوِّل الزيارة القادمة، إن حدثت، للطابع الرسمي الذي يفترض وجودَ وفدٍ مرافق ينتهي بتوقيع اتفاقياتٍ جديدة، بعيداً عن الزيارتين اللتين قام بهما الرئيس الأسد لروسيا سابقاً واللتين تندرجان تحت مسمى «لقاء الحلفاء».
خطوة جديدة ربما لم يجرؤ عليها حتى الآن حتى من يُصَنفون بـ«حلفاء سورية» خوفاً من حردِ حليفهم التركي الذي يقاسمهم شعار «الصحوة الإسلامية»، لكنها بالنهاية خطوة لا يمكن لها أن تنفصل عن وصول المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى دمشق، هذه الزيارة تبدو متقاطعة كذلك الأمر مع زياراتٍ قام بها نائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين لعددٍ من دول الخليج العربي أهمهما عُمان ومملكة آل سعود، تحديداً أنهما يمثلان جناحين مختلفين بما يتعلق بالتحضيرات لما يسمونه «الحل السياسي» في سورية.
يبدو الجانب الروسي وكأنه يسعى في اتجاهين، الأول هو ضمان الحد الأدنى من التوافق العربي ـ العربي، بما فيها مصالحة سورية- سعودية إن أمكن، تحديداً إن جميع التحليلات التي تتحدث عن اقتراب سقوط آل سعود بعد ما جرى من فضيحة القنصلية ذهبت أدراج الرياح، والتغيير القادم في المملكة بأقصى حالاته كارتدادٍ للفضيحة سيكون باستبدالِ ولي العهد محمد بن سلمان أو تسليمهِ السلطة. هذا التقارب إن حدث فسيسرِّع من الوصول للحل السياسي في سورية، خصوصا أن الأميركي حتى الآن لا يبدو أنه سيمانع حدوث ذلك، ولو كان فعلياً يرفض لرفض لقاء وزير الخارجية البحريني خالد بن أحمد آل خليفة مع نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، بل ولا كان أوعز للنظام الأردني بمنع إعادةِ فتح معبر نصيب من جديد.
الاتجاه الثاني هو التسويق لتشكيل «اللجنة الدستورية» المنبثقة عن سوتشي كرافعٍ أساس لهذا الحل، ينضم إليها من يتم ترشيحهم من معارضة الرياض، تحديداً أن القيادة السورية تبدي انفتاحاً على عمل هذه اللجنة وهي طرحت جميع النقاط الشائكة للبحث والمراجعة بشرط أن تكون النتائج مرتبطة بحوارٍ سوري سوري بعيداً عن الإملاءات والتبعية، فهل نجح الروس في مسعاهم هذا؟ ربما من المعروف عن الروس أنهم لا يخوضون في مسعى لا يُدركون سلفاً إيجابيةَ نتائجه!
ثانياً: معركة إيجاد بديل من ستيفان دي ميستورا، فلم يكن إعلان المبعوث الأممي نيتهُ تركَ منصبهِ نهايةَ الشهر القادم بالحدث العادي، هو سوَّغ نيته الرحيل لأسبابٍ شخصية، لكن هذا التبرير في السياق العام يشبه لحدٍّ بعيد تبريرَ مملكة العائلة لمقتل جمال خاشقجي بأنه ناتجٌ عن مشاجرةٍ مع 18 شخصاً، خصوصا أنه أكد في أكثرَ من مناسبةٍ أنه لن يستقيل حتى التوصل إلى حل، ودي ميستورا الذي لم يعرف يوماً الحياد في مواقفهِ التي تتطلبها مهمته كمبعوثٍ دولي وتجاوزَ صلاحياته بطريقةٍ مستفزةٍ، كان أشبه بصندوق الرسائل باتجاهٍ واحد محاولاً فرض رؤية أعداء سورية كواجهةٍ للحل، وعندما كان يواجه بالرفض من القيادة السورية كان يخرج ليتباكى على دماء الإرهابيين كما فعل عندما «حردَ» يوم رفضت القيادة السورية مقترح «إنشاء منطقة حكم ذاتي» في حلب الشرقية وذلك بناءً على طلبٍ تركي، طالباً من الأمين العام للأمم المتحدة يومها بان كي مون إعفاءه من منصبه، واليوم يبدو سبب الخروج الأساسي أنه لم يعد لديهِ ما يقدمهُ لمن يدعمونه، هو يدرك تماماً أن الكفة مالت بشكلٍ شبه كاملٍ لمصلحة القيادة السورية وإن كان رحيله هو «نصرٌ» فإن معركة انتقاء البديل ستكون إحدى علامات تعميق هذا النصر، لأنه سيحيك شكلَ ما ستكون عليه الرعاية الأممية للحل السياسي في سورية، تحديداً أن المرشحين حتى الآن تبدو فيهم شخصيات منطقية، وشخصيات تفوق دي ميستورا لؤماً كوزير الخارجية البلغاري السابق نيكولاي ملادينوف، والذي لا يبدو أن القيادة السورية جاهزة للتعامل معهُ بأي شكلٍ من الأشكال، فهل نعود عملياً مرة ثانية للجزائريين وينجح الجميع بالتوافق على اسم رمطان العمامرة الذي ذاقت بلاده سابقاً نار الإرهاب، ربما سيكون انتصاراً دبلوماسياً جيداً لكنه بحاجةٍ للكثير من العمل حتى لا نقع بمطباتٍ «دي ميستورية» متناقضة من جديد.
ثالثاً: الاجتماع الرباعي القادم بين تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا، فقد كان من المفترض لهذا الاجتماع أن يُعقدَ بدايةَ أيلول الماضي، يومها انسحب منه كل من فرنسا وألمانيا بذرائِعَ مختلفةٍ، ووقتها كان من الواضح أن سبب الانسحاب غير المعلن هو ضغطٌ أميركي بهدف معاقبة نظام «العدالة والتنمية» لرفضهِ إطلاق سراح القس الأميركي آندرو برونسون.
اليوم تبدو عودة الحديث عن هذا الاجتماع أشبهَ بجائزةِ ترضيةٍ لتركيا، ليس فقط بسبب إذعانها لمطالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بما يتعلق بالقس الأميركي، لكن لالتزامها بعدم نشر ما تمتلكهُ من معلوماتٍ ووثائقَ ادّعت امتلاكها، وتؤكد تورط مقربين من نظام آل سعود بقتل خاشقجي، وهذا الصمت التركي ساعد على لفلفة القضية أو ربما تلبيس القضية لهؤلاء المقربين من النظام السعودي، ما مكن ترامب من تسجيل المزيد من النقاط على آل سعود.
في الحالتين فإن هذا الاجتماع يبدو لزوم ما لا يلزم، فالأوربيون المتخوفون من قضية اللاجئين في حال حدثت معركة إدلب لا يمكن لهم تقديم ضماناتٍ في إطار الحل السياسي لأنهم أساساً لا يملكون أي نفوذ داخل التنظيمات الإرهابية، أما الحديث عن عودة اللاجئين السوريين وهو الأمر الذي يسعى إليه الروس، فإن من لا يريد العودة منهم طواعيةً فإن القوانين الأوربية لا تستطيع إجبارهُ على ذلك، وبمعنى آخر: هو اجتماعٌ جديد من سلسلةِ الاجتماعات التي ينتهي مفعولها بمجرد انتهائه، وحدهُ التركي من سيكسب صخباً إعلامياً كراعٍ لهذا الاجتماع لا أكثر، وهو أمرٌ يريدهُ لأنه يعي في النهاية أنه مقبلٌ على تنازلاتٍ كبيرة في إدلب ربما لمَّح إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل أيام بالقول: إن الأتراك لم ينفذوا تعهداتهم بما يتعلق باتفاق سوتشي حول إدلب! هذا الكلام ببساطة معناه أن زمن جوائز الترضية للروس وبعكس الأميركيين، انتهى.
رابعاً: الانتصار الإعلامي شعبياً بإعادة فتح معبر نصيب مع الأردن، إذ لم تكن إعادةَ فتح معبر نصيب وإصرار الجانب السوري أن يتم التعاطي مع الزوار الأردنيين بالطريقة ذاتها التي كان يتم فيها التعاطي قبل الحرب بالحدثِ العابر، بعيداً عن قضايا السلع الرخيصة ومقارنة مداخيل المواطنين بين الدولتين وما شابه، لكن هناكَ ما هو أهم كسبتهُ القيادة السورية من خلال الصور المتداولة للأردنيين العائدين بالسلعِ السورية، هذه الصور خلقت على مستوى الوطن العربي حالةً شعبيةً جديدة ولهجة لم نعتَد على سماعها.
هذا الأمر لابد من الاستثمار فيهِ تحديداً لكونه ترافق مع أحداثٍ كثيرة كسرت نوعاً ما الطوق المفروض على الروايات الصحيحة لما يجري في سورية، من زيارة وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، وصولاً لزيارة وفد إعلامي كويتي، وغيرها مما يُحكى عنه في العلن وفي ماذا يجري في القنوات السرية؟ وربما هو أبعَدَ من ذلِك بكثير، وهذا كله ما كان ليحدث لولا ما قدمه الشعب والجيش السوريين من صمودٍ أذهل العدو قبل الصديق.
باختصار نحن الآن نعيش اللحظات الأخيرة لما يمكننا تسميته، «ترتيب التخريجة» التي سيتم من خلالها إعلان الانتصار السوري على الإرهاب وداعميه، لكن حتى ذاك الوقت علينا أن نعرف أن المتضررين كثُر، وأن الساعينَ للعبِ في الوقتِ الضائِع لن يستسلموا، كذلك الأمر فإن الحديثَ عما بعد الانتصار سيبقى الحديث الأهم، أيّ سورية نريد؟ أي حكومةٍ نريد؟ أي دستورٍ نريد؟ لكن حتى يحين الوقت دعونا نطبِّق مقولة: «كل شي بوقتو حلو».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن