ثقافة وفن

هكذا تولد الأعمال العظيمة نجيب محفوظ.. والقصة القصيرة … الإبداع من المعاناة للوصول إلى العالمية حكاية ومضموناً

| د. رحيم هادي الشمخي

نغوص في بحار المبدعين، تبهرنا كلمة، يشجعنا لحن، تطربنا أغنية، نذوب من أبطال فيلم، نتفاعل، نتوحد، يمس إبداعهم أوتار القلب بصدق، يرتجمون أحاسيسنا مشاعرنا، ينقلون ما يدور بعقولنا، فتتحول أعمالهم إلى مرآة تعكس أفكارنا، وأخلاقنا، وآلامنا، وأفراحنا، فنتعرف على نقاط ضعفنا وقوتنا، جمالنا وقبحنا، تهز فينا ثمار الخير، تعرينا لنقلع بذور الشر عن أنفسنا، ويمتزج معهم الحلم بالواقع، الحقيقة بالخيال، في عالم ثري ساحر، يأخذنا فنأبى الرحيل عنه، يدعونا فنلبي النداء، وكأننا على ميعاد معهم، ننتظرهم ليكشفوا لنا عن حقيقة نعيشها، ولأنهم قريبون منا، تؤرقهم همومنا، كأن علينا أيضاً أن نقترب منهم، نتعرف على لحظات إبداعهم، طقوسها، ومعاناتها، نشاركهم عالمهم كما شاركونا دائماً عالمنا.

عالم نجيب محفوظ ثري، ساحر، مبهر، تجذبك فيه الكلمة، يمتعك الحوار، ويبهرك الوصف، يأخذك الكاتب العملاق في عالمه في القصة القصيرة أو غيرها من فنون الأدب، لتعود مفتوناً بعقل منظم إلى أبعد الحدود، والمدهش أن وراء هذا الكاتب الكبير أيضاً حياة منظمة بدقة غير عادية وهو الذي يقول: «إنني أكتب عادة عند الغروب، ولا أذكر أنني كتبت أكثر من ثلاث ساعات، وفي المتوسط لمدة ساعتين، أشرب في اليوم الواحد خمسة فناجين قهوة، وأسهر حتى الثانية عشرة ليلاً، وأكتفي بخمس ساعات نوم، كما أنني أعمل في كل سنة بدءاً من أول العام حتى شهر حزيران فقط، بسبب مرض الحساسية».
نجيب محفوض منذ أن خرجت له أول قصة طبعها والمكتبة العربية والأدب العربي الحديث كسب رصيداً جديداً.
أضيف إلى رصيد الإبداع الحقيقي الواقعي الخارج من رحم الأمة ومن نبع فيض معاناتها، ومع الإرهاصات والإبداعات المتتالية التي سبقت، ومن ثم تلك الثلاثية الخالدة، بل إن نجيب محفوظ أكثر من يستحق الجوائز العالمية الكبرى في الآداب وعلى رأسها جائزة نوبل بالطبع.
لذلك، وعلى الرغم من أن شهرة نجيب محفوظ تستمد عناصرها من كونه كاتباً روائياً قبل كل شيء، فإنه بدأ نشاطه الأدبي بكتابة القصص القصيرة والمقالات، وهو لا يزال طالباً في سنوات الجامعة الأولى، سنة 1930 وما بعدها، وفي ذلك الوقت، كانت القصة القصيرة أكثر القوالب الأدبية شعبية في مصر، ولم يكن من المستغرب أن يتجه الكاتب الناشئ بمحاولاته الأولى إلى هذا الميدان، وخاصة إذا وضعنا في الاعتبار صعوبة النشر آنذاك.
وعندما حلت سنة 1944 وهي السنة التي نشرت فيها ثالث روايات نجيب محفوظ، وكانت جميعها تاريخية، كان قد نشر أكثر من سبعين قصة قصيرة غطت موضوعات مختلفة كان معظمها معاصراً، ومع ذلك فقد ألف النقاد أن يسموا هذه المرحلة من حياة نجيب محفوظ «المرحلة التاريخية» لنشره تلك الروايات الثلاث. ولعل السبب في ذلك هو أن كل القصص القصيرة التي كتبها نجيب محفوظ حتى ذلك التاريخ لم تكن قد نشرت إلا في الصحف والمجلات كما سنرى- ولو أنها جمعت في كتب ذلك الوقت، لخرجت في ثلاث أو أربع مجموعات قصصية، لو تردد النقاد في نعت هذه الفترة من حياة الأديب الكبير بالمرحلة التاريخية.
وتحتوي مجموعته الأولى «همس الجنون» على 28 قصة (أو نحو ثلث ما كان قد نشر في قبل في دوريات) يمكن مناقشتها مناقشة ملائمة إذا صنفناها في طائفتين:
أ- الطائفة الأولى: والأكبر تتألف من قصص تظهر بوضوح تأثير (المدرسة الحديثة) التي برزت للوجود في أواخر العقد الثاني، وترعرعت في العقد الثالث لهذا القرن، والتي اهتم كتابها على ما هو معروف، بإبراز الشخصية المصرية في إطار أدب مصري أكثر واقعية وأشد التصاقاً بالمجتمع مما كان يكتب في ذلك الوقت- وهكذا وضح في إنتاج هذه المدرسة اللون المحلي من جهة، (وهو يبدو واضحاً بصفة خاصة في قصص أو لوحات محمود تيمور، كالشيخ جمعة، وعم متولي.. إلخ)، ومشكلات الأسرة المصرية من جهة أخرى (كتعدد الزوجات، وبيت الطاعة، والخمر، والخيانة الزوجية، وزواج الطاعنين في السن بفتيات صغيرات.. إلخ) وتبدو هذه المشكلات وأمثالها بوضوح في إنتاج محمود طاهر لاشين بشكل خاص.
وكما هو المنتظر من كتاب القصة القصيرة في هذه المرحلة المبكرة من تاريخها في مصر، فقد اعتمد الكتاب، عادة، على المفاجآت أو المصادفات أو المفارقات لكي يضمنوا لقصصهم نهايات مثيرة أو غير متوقعة.
ب- الطائفة الثانية من القصص القصيرة في «همس الجنون» وضوح إيمان نجيب محفوظ المتصاعد بالاشتراكية على الرغم من أنه لم يكن قد اكتشف الطريق الأمثل للتعبير عن آرائه هذه في قالب أدبي، وعلى الرغم من أن آراءه الاشتراكية لم تكن قد تبلورت بعد. ففي قصة «الجوع» مثلاً، يبدو أنه يرى أن من الممكن تحقيق الإصلاح الاجتماعي بواسطة الطبقة الرأسمالية، إذا كانت هذه الطبقة مستعدة لبذل الجهد. إذ يفقد عامل في أحد المصانع ذراعه في حادثة بالمصنع ويقرر الانتحار حين يجد أنه لن يستطيع أن يعول أسرته، وفي اللحظة التي يقدم فيها على الانتحار «يتصادف» مرور ابن صاحب المصنع الذي يمنحه بعض المال ويعده بعمل جديد في المصنع، ويتأمل الابن للحظة في المال الذي ينفقه كل ليلة على مائدة القمار، والذي يكفي لإعالة أسر كثيرة كهذه.
ومن جهة أخرى فإن مغزى قصة «الورقة المهلكة» هي أن أي مساعدة تمنحها الطبقة الأرستقراطية للفقراء لن تجر وراءها الخراب، إذ يعطي رجل غني عشرة جنيهات لمغن فقير، فيتغير مجرى حياة المغني، ويصبح بالتدريج قاطع طريق ثم يشنق في النهاية، لارتكابه جريمة قتل. ويقود البحث عن أتباعه رجال البوليس إلى هدم الحي الذي يؤوي زملاءه القدامى.
وبجانب موقف نجيب محفوظ غير المتناسق في هذه القصص، فمن الواضح أنه هنا يتخذ موقفاً محدداً، ويحاول أن يصدر الأحكام ويقرر الحلول للمشاكل، على حين أنه يكتفي في أعماله اللاحقة بوصف الأوضاع الاجتماعية المروعة بطريقة محايدة ومن دون أي تعليق.
فقد استمر يكتب بمعدل واحد تقريباً من أواسط الثلاثينيات حتى سنة 1942.
ثم بدأ ظهور القصص يقل بشكل واضح لدرجة أنه لم ينشر في الفترة من سنة 1942 إلى سنة 1960 سوى عدد محدود ومتناثر من القصص لا يكاد يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وواضح أن السبب في ذلك هو انصراف الأديب الكبير في كتابة العديد من رواياته ونشرها. ومنذ سنة 1960 تقريباً يبدأ اهتمام نجيب محفوظ بالقصة القصيرة مرة أخرى، فنجده ينشر في أوائل الستينيات عدداً من القصص في جريدة الأهرام ثم يجمعها بعد ذلك وينشرها بعنوان «دنيا الله» سنة 1963.
وتستغرق الفترة التي قل– أو توقف- فيها نشاط نجيب محفوظ في ميدان الأقصوصة زهاء عشرين عاماً (1942- 1960)، وهي فترة طويلة استطاع خلالها أديبنا أن يوطد مكانته كأهم كاتب روائي في مصر وربما في العالم العربي كله، كما تمكن أدباء من أمثال يحيى حقي ومحمود البدوي وصلاح دهني ويوسف الشاروني ويوسف إدريس أن يرتفعوا بمستوى القصة القصيرة في الأربعينيات والخمسينيات ارتفاعاً ملحوظاً ولم يكن غريباً – لكل ذلك- أن تختلف قصص «دنيا الله» عن قصص «همس الجنون» اختلافاً بيناً. فعلى حين تقرأ قصص المجموعة الأولى بسرعة وتنسى بسرعة، ويبدو الكتاب وكأنه مجموعة من التفاصيل غير المهمة، فإن قصص «دنيا اللـه» تصور – بأسلوب واقعي ناضج- مواقف غنية زاخرة بالمعاني والمشاعر، وهي لذلك أكثر إقناعاً وأكثر إمتاعاً وأزهى حضوراً في ذهن القارئ.
لقد استطاع نجيب محفوظ هنا أن يجسم المضامين الاجتماعية والميتافيزية لقصصه في أشخاص وأحداث لها علاقة حقيقية بالحياة. حتى القصص الرمزية، والرمز بعد جديد لم يكن موجوداً في «همس الجنون»، فإن لها معنى حقيقياً إذا فهمت على المستوى الواقعي، ولكل هذا تدفع هذه القصص القارئ إلى أن يتناولها بطريقة جادة وأن يتأمل مغزاها وما تريد أن تقول. إضافة إلى ذلك فإن أفكار نجيب محفوظ هنا دائماً واضحة ومتسقة حتى يستطيع القارئ أن يدرك بسهولة وجهة نظره في الحياة في تلك الفترة.
ولم ينشر نجيب محفوظ أي مجموعات قصصية إلا بعد هزيمة حزيران 1967، التي أثرت تأثيراً بالغاً في كتابته القصصية اللاحقة، هذا هو نجيب محفوظ الخالد في التاريخ أبداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن