ثقافة وفن

الغرب سرق حذائي

أخبرني هاتف ذات مساء يوم خميس عن وفاة إحدى قريباتي، وأن الصلاة عليها ستكون بعد خطبة وصلاة الجمعة.
وفي اليوم التالي لبست زياً رسمياً يليق بمراسم التشييع والدفن ثم رافقت عديد الأقارب والأصدقاء إلى المسجد لمشاركة أهل المرحومة في الصلاة عليها ومن ثم مرافقتهم موكب الجنازة إلى المقبرة.
دقائق بعد آذان الظهر وبدأ الخطيب خطبته شارحاً لجموع المصلين عن مفهوم الأخلاق الحميدة، ومؤكداً أن أساس الدين هو الخلق، ومذكراً جموع المصلين بوجوب اتباع منهج الأولياء الصالحين في التعامل بينهم قبل أن يدركهم الموت، ثم أخذ ينثر عليهم من ذاكرته مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي تحث الناس على مكارم الأخلاق، مستشهداً بأمثلة عديدة تؤيد ما أراد قوله عن عظمة تاريخنا وعن أخلاقنا الرفيعة، إلى أن أنهى مقدمته بالقول إن حسن الخلق هو الدين الحقيقي، وأنه الطريق الوحيد إلى الله تعالى.
ثم انتقل الخطيب للقول إن أساس بقاء الأمم هو الأخلاق، وإن أي أمة تنهار أخلاقها سينهار كيانها لا محالة، كما تابع حديثه موضحاً الفرق بيننا وبين الغرب، مستعرضاً مشاهد عديدة تظهر انحلال أخلاق شعوبهم وتفسخ علاقاتهم الاجتماعية، مستخدماً لذلك صوراً حسية، وأحياناً حركية، حتى يكاد المرء يلحظها أمام عينيه لشدة تصويره، وبخاصة ما تحدث به عن ظاهرة زواج المثليين، وعن عبودية المال والنهم للجنس وشرب الخمور، ثم أتى الخطيب بإسهاب على عنصرية أمم الغرب وعلى تعاملهم الفوقي مع الشعوب الأخرى، وعلى المشكلات الأسرية التي يعانونها كجحود الأبناء لآبائهم وسوقهم إلى مآوي العجزة عندما يشيخون، وأن الرجل عندهم يمكن أن يكون له عشرات الخليلات، وأنه قد لا يتذكر زوجته إلا في المناسبات، وأن الأولاد غالباً ما يتطبعون بطبائع آبائهم، وربما يصابون نتيجة لذلك بمختلف الأمراض النفسية بما فيها الاكتئاب.
ثم أعطى الخطيب بالمقابل نماذج عن أخلاقنا الحميدة كبرنا لوالدينا، وصلتنا للأرحام، وعن إحساننا إلى الجيران، وإفشائنا للسلام، وعن معاشرتنا لزوجاتنا بالاحترام وبطيب الكلام، وعن تعاملنا مع الآخرين بصدق الحديث، وعن نظافتنا في أبداننا وبيوتنا.
ولقد كان جمهور المستمعين مختلفاً في تجاوبه مع الإمام الخطيب، فمنهم من ألجأ ظهره للحائط أو لأحد أعمدة المسجد نائماً قرير العين، حتى إن بعضهم قد قاطع بصوت شخيره إنصات البعض الآخر، ومنهم من شغل نفسه بهاتفه المحمول يسجل الخطبة بالصوت والصورة، وآخرون كانوا يصلون غير مبالين بالخطبة، ومنهم من ركن خديه إلى كفيه مستغرقاً في همومه، أما البقية المتبقية فكانت تستمع إلى الخطبة باهتمام ملحوظ، إما بإيمائهم إلى الخطيب هازّين برؤوسهم يؤيدون ما يقول، أو بترديدهم ما يذكره بأصوات خفية، إنما بحماسة بالغة.
نظر الخطيب إلى ساعته ينوي إنهاء خطبته، ولا أعرف لماذا انتابني في تلك اللحظة بعض الفضول فصرت أسأل نفسي أليست ساعته التي كان ينظر إليها هي من صنع الغرب؟!.. أليست جلجلة صوته في أركان الحارة التي يقع فيها المسجد من آلة ابتدعها الغرب؟!. أوليس ذلك الجهاز الذي أمتعنا بالبرودة أثناء إلقاء الخطبة في عز حر الصيف هو مما اخترعه الغرب؟!. أوليست تلك الإضاءة التي عمت أرجاء المسجد فجعلته كشعلة وقادة مما أنتجه الغرب؟!. لماذا لم تثن أيها الخطيب على صنع هاتيك الهواتف الجوالة التي حملها بعض المصلين يسجلون لك خطبتك بالصوت والصورة؟ ليتك عظمت اختراعاتهم واكتشافاتهم التي نتنعم بها مثلما قزمت أخلاقهم وقبحت صفاتهم !!
انتهت أخيراً صلاة الجمعة، ثم أقيمت صلاة الميت، فهممت بعدها بالخروج من المسجد لمتابعة التشييع إلى المقبرة. وصلت إلى الركن من الرفوف المعدنية الذي وضعت فيه حذائي لكنني عبثاً لم أجده. صرت أحوم بين أطراف المسجد بعد أن غادر معظم المصلين والمشيعين باحثاً هنا وهناك لعلي أجد حذائي في مكان ما، لكن من دون جدوى. وقفت حائراً أبحث عن حل، فكيف لي أن أخرج مشيعاً قريبتي وأنا بكامل أناقتي، لكن من دون حذاء.
وبينما أنا في حيرتي هذه وجدت بقربي خادم الجامع فرحت أسأله على الفور إن كان يعرف كيف يمكنني أن أجد حذائي. قال لي غير مستغرب: العوض بسلامتك، هناك أحد ما قد استعار حذاءك، ولكم أتمنى أن يكون الذي استعاره محتاجاً إليه.
قلت له باستغراب بالغ: ماذا تقول؟ استعار حذائي؟. قال لي: كان من المفضل ألا تأتي إلى المسجد بحذاء جديد أو على الأقل أن تضع إحدى فردتي حذائك في مكان ما والثانية في مكان آخر. قلت له مدهوشاً أهي أحجية؟ أم إنك تمازحني؟، ثم قال لي بربك كيف عرفت أن حذائي جديد؟. رمقني ذلك الرجل بنظرة استغراب من دون أن يجيب عن سؤالي بل قال لي: دعنا لا نضيع الوقت.. سأبحث لك في المستودع عن شيء ما يرفع قدميك عن الأرض. ضربت كفاً بكف متأسفاً لضياع حذائي، ومنتظراً في الوقت نفسه خادم الجامع الذي عاد بعد دقائق حاملاً قبقابا خشبياً ليعطيني إياه، معتذراً عن عدم وجود أي شيء آخر غيره يمكن تقديمه لي.
قلت له متحسراً: لا عليك.. فسيارتي عند باب المسجد، ولن أمشي طويلاً حتى أبلغها. مشكور أيها العم، وسأعيد لك القبقاب غداً على أبعد تقدير.
تبسم الرجل في وجهي قائلاً: لا عليك، خذ راحتك.
خرجت من حرم المسجد أمشي الهوينى، أطرق بقبقابي على الأرض كمن يتمشى في حمام السوق، لأجد الإمام الخطيب قبالتي يهّم بالخروج أيضاً أخذ يتأملني من رأسي حتى أخمص قدميه وهو يربط رباط نعله، ثم قال لي: تقبل الله يا أخي، قلت له مرتبكاً، منّا ومنك يا شيخنا صالح الأعمال، قال لي وهو يخفي ابتسامته لمنظر قبقابي الخشبي ومن فوقه بزتي السوداء الأنيقة: ماذا بك يا أخي؟ لماذا يبدو عليك الاضطراب؟ هل تبحث عن دورة المياه؟ إن كنت كذلك فهي هناك، على بعد عشرة أمتار، إلى اليمين، قلت له مخفياً غضبي بابتسامة مجاملة: لا.. أبداً يا شيخنا، أنا لا أبحث عن دورة مياه، القصة وما فيها هو أن أحداً من الغرب قد سرق حذائي الجديد.
تمتم الإمام بكلمات غير مفهومة، ثم غادر المكان حتى من غير أن يقرئني السلام.

| د.عامر مارديني

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن