ثقافة وفن

«النوتيلوس» وخمسمئة مليون سنة…الحياة أشبه ما تكون بالبحر ومخيفة مثله

 نصر الدين البحرة : 

حين رأيت الشاطئ لم أملك أن أمنع ذاكرتي من أن تعود سنوات طويلة في الزمان، وغير بعيدة في المكان، نحو ضاحية لبيروت تبعد عنها زهاء سبعة كيلومترات واسمها «جل الديب» حيث أقمت زهاء سنتين.
مرت تلك الأيام الجميلة مثل شريط سينمائي سريع، واستحضر الخيال بسرعته الخاصة شبه الضوئية المشاهد جميعاً.
وقتها زارني الصديق الراحل حسيب كيالي، أكثر من مرة، كان الفصل ربيعاً آنذاك، وبساتين البرتقال والليمون، تنشر عطرها الخاص فيغمر الضاحية كلها، بعبق أشهى وأزكى من رائحة الياسمين والفل والبنفسج والورد البلدي، فكتب مقامة، في إحدى صحف دمشق قال فيها متسائلاً:

أنت جل الديب أم جل الغزال؟
وقال لي حسيب ونحن جالسان في الشرفة، وراءنا الجبل المشجر، في أعلاه دير الصليب، وفي سفحه بلدة الأديب اللبناني الكبير رئيف خوري «بصليم»- وكنت ألتقيه بين يوم وآخر في سيارة السرفيس- ومن حولنا بساتين الموز والبرتقال والليمون، والعين لاتكاد تقع إلا على لون أخضر والبحر أمامنا، تتدافع أمواجه دانية كراحة تلامس وجنة حبيب، ثم تتكسر بلطف وهدوء، لا يفصلنا عنها سوى الشارع العريض المفضي إلى جونية فطرابلس قال:
• أتدري بماذا أحلم؟ أن أمضي بقية عمري حينما أتقاعد في مثل هذا المكان.
… كانت الشمس قد انحدرت للمغيب، وراحت تغطس رويداً رويداً وراء البحر، والصيادون في زوارقهم الصغيرة انطلقوا كأنهم يتجهون نحو الشمس يريدون أن يدركوها قبل أن تغرب، وبدت الظلال خلفهم كأنما هي مرسومة رسماً. ولاحت لي على البعد تموجات الماء، أشبه بضربات من ريشة فنان يأخذ ألوانه من كف الله.
كنت في تلك الأيام أعيش حلماً، لم أتصور من قبل أن الفرصة ستتاح لي كي أراه وألمسه بيدي: أن أعيش شهوراً طويلة على البحر، لا.. كما يحيا المستجمون على الشواطئ أو الزائرون السائحون، الذين ما إن يألفوا المكان ويبدؤوا بالتعرف إلى مغاليق الجمال وأسرار اللطف والهدوء حتى يقرع جرس عودتهم مؤذناً بانتهاء الزيارة.
كان يحلو لي بين يوم وآخر، أن أسير منفرداً حافياً، على رمال الشاطئ الذهبية، ونعلاي في يدي، تنغرس قدماي تارة في الرمال، ويقترب منهما تارة أخرى زبد موجة متكسرة، كانت عالية في البعيد، وربما… عاتية، لكنها، وقد نأت المسافة عن موطنها البحر، تهشمت حتى تلاشت تحت الأقدام في ونى وخفوت يشبهان كلام المتعبين.
لم تبق قصة قرأتها أو حكاية سمعت بها، عن البحر، إلا راجعتها وحدي في تلك المشاوير، وكان يطيب لي في بعض الأحيان، أن أنتقل من كتاب إلى كتاب في المشوار الواحد. تذكرت مثلاً رحلات السندباد البحري كما قرأتها، طفلاً بقلم كامل الكيلاني، وكما استمتعت بها شاباً في (ألف ليلة وليلة)، ثم توقفت لأقارن بينها وبين رحلة (أوليس) أو (أوديسيوس) في الأوديسة.
تذكرت البحر في «طلاسم» أبي ماضي:
إنني يا بحر، بحر شاطئاه شاطئاكا
الغد المجهول والأمس اللذان اكتنفاكا
وكلانا قطرة يا بحر، في هذا وذاكا
لا تسلني ما غذٌ، ما أمس، إني لست أدري.
وجاءتني صور مخاوف ابن الرومي من الماء حتى إنه عد دجلة بحراً:
وأما بلاء البحر عندي فإنه
طواني على روع مع الروح واقب
ومرت على صفحات الذاكرة قصة «سومرست موم» عن البحر، وتلك الجريمة شبه الكاملة التي نفذها هناك أحد أبطال قصصه، وقصة «الشيخ والبحر» لأجمل روائيي القرن العشرين أرنست همنغواي.
وقلت: يا الله، ما أعمق هذا الكتاب وما أكبر صفحاته، إنه مثل الكون الكبير الذي هو جزء أصغر من صغير منه. كم ذا يقرأ فيه الإنسان؛ فكلما قرأ صفحة، زاد معرفة ويقيناً بمقدار جهله، وعاد به الشوق إلى القراءة في «كتاب الدهر» على حد تعبير أبي ماضي، وكلما وضع يده على واحد من أسراره، برزت له أسرار أخرى، أشد إلغازاً، وأكثر استغلاقاً وغموضاً..
… يومذاك لم يكن قد وصل إلى معرفتي أن بعض علماء البحر اكتشفوا في دهاليز المحيط ومتاهاته، كائناً بحرياً عمره خمسمئة مليون سنة، يدعى «النوتيلوس Nautilus»، ما زال على شكله وهيئته وطبيعته، كما تؤكد مستحاثاته، ويعيش الآن في البحر- بعدد قليل جداً- جنباً إلى جنب مع الأسماك بنات البارحة!
ماذا مرّ على الكرة الأرضية من كوارث وأهوال، ومسرات ومباهج ومفاجآت ومباغتات، و«النوتيلوس» سادر في مكانه، في الأعماق الخفية تحت اللجج والأمواج، والعواصف والأنواء، لم يكبر ولم يصغر.
لم يصعد إلى فوق، ولم يغص إلى تحت.. أكثر، ولسنا ندري إن كان يقدر أن يدهش ويعجب مثلنا.
… ذات صباح، في أحد هذه المشاوير، وكنت أعرف أن الصيادين يرجعون من البحر في هذا الوقت، وكان في نيتي أن أحصل على سمك طازج منهم، كما أفعل أحياناً، فوجئت بهم يفرغون شباكهم على الشاطئ، فصرخت: ما هذا؟
قال لي أكبرهم سناً: سهرنا الليل كله، فحملتْ الشبكة قناديل.
آه، هذا إذاً، هي «ورود البحر العائمة» كما تدعى أيضاً، لكنها لا تصلح لشيء، وهي مؤذية أيضاً إذا مست جسد إنسان.
منظرها، فقط هو الجيد… الجميل فيها، ولكن.. على البعد..
بلى، يا سيدي البحر، أنت تشبه الحياة كثيراً، وأنت كذلك جميل ورائع ورحب، وأنت مثلها أيضاً، مخيف في بعض الأحيان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن