ثقافة وفن

الويل لأمة تخاف من أبنائها

شمس الدين العجلاني : 

في الزمن الماضي أطلق الفيلسوف جبران خليل جبران، الويل… الويل.. فقال: «ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب مما لا تعصر، ويل لأمة مقسمة إلى أجزاء، وكل جزء يحسب نفسه فيها أمّة، الويل لأمة لا تحمل ثقافة أجدادها وتصرفها أفعالا، الويل لأمة تنهل من كتب غيرها وتلقي كتبها في خنادق النار، الويل لأمة لا تقرأ، وإذا قرأت لا تفهم، وإذا فهمت لا تعي، وإذا وعت لا تدرك، وإذا أدركت تخاف من كل شيء، ويل لأمة يكون فيها وجه المرأة عورة، وصوتها عورة، وحبها عورة، ويل لأمة تريد نساءها خلف البعير، ويل لأمة لا ترى في النساء إلا الجنس والسرير، الويل لأمة يهجرها أبناؤها طلباً للعيش الكريم…».
وختم الويلات بقوله: «الويل لأمة تخاف من أبنائها».
وكل ما قاله جبران كنا ومازلنا نعاني منه، وخاصة في أيامنا هذه، فكم من المؤلم أن تحذيرات الفيلسوف جبران لم تلق على مر الأيام والسنين منا أُذناً مُصْغِية. والأخطر في ويلات جبران «الويل لأمة تخاف من أبنائها».
فكم من ابن ضال على مر الأيام أساء لأهله وشعبه ووطنه، وكم تعاني اليوم بلادنا من بعض أبنائها، وكم عانت وتعاني دولنا من ذلك.
التاريخ لا يرحم ويرصد كل أفعالنا وأعمالنا، وسطر العديد من القصص والوقائع والأحداث التي أساء بها الفرد إلى أمته وشعبه، وفي عالم الصحافة تكون المصيبة أكبر حين يخون الصحفي وطنه، ويرتمي في حضن الأعداء والمستعمرين من أجل حفنة من الدولارات، كما يحصل الآن لبعض صحفيينا، وصفحات التاريخ سطرت عمالة مصطفى أمين الصحفي المصري الشهير لوكالة المخابرات الأميركية «CIA».

من مصطفى أمين؟
ولد مصطفى أمين في 21 شباط 1914م، كان والده أمين أبو يوسف محامياً، والدته رتيبة ابنة أخت الزعيم سعد زغلول.
كانت الصحافة هي العشق الأول له وكذلك شقيقه التوءم علي أمين، وبدأ العمل بها باكراً، وأصدرا مجلة «الحقوق»، تلا ذلك إصدارهما مجلة «التلميذ» عام 1928م، أعقبها مجلة «الأقلام»..
في عام 1930 انضم مصطفى للعمل بمجلة «روز اليوسف»، وبعدها بعام تم تعيينه نائباً لرئيس تحريرها، ثم انتقل إلى العمل بمجلة «آخر ساعة».
تزوج مصطفى وأنجب ابنتين هما رتيبة وصفية وزوجته هي «إيزيس» تزوجها بعد خروجه من السجن 1974م.
التحق مصطفى أمين عام 1935م بكلية الحقوق ثم سافر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث التحق بجامعة جورج تاون وحصل في عام 1938م على الماجستير في العلوم السياسية والاقتصاد والصحافة. ثم عاد إلى مصر وعمل كمدرس لمادة الصحافة في الجامعة الأميركية لمدة أربع سنوات. توفي في 13 نيسان عام 1997م.
أسس مع شقيقه التوءم جريدة «أخبار اليوم» في عام 1941م، ثم اشترى مجلة «آخر ساعة» عام 1946.
ترك مصطفى أمين العديد من المؤلفات الأدبية والصحفية، كما سجل تجربته في المعتقل السياسي في تسعة كتب وروايات هي: سنة أولى وثانية وثالثة ورابعة وخامسة سجن، وكذلك روايتاه صاحب الجلالة الحب وصاحبة الجلالة في الزنانة، تحولت روايته سنة أولى حب إلى فيلم ثم تحولت روايتاه (لا) و(الآنسة كاف) إلى تمثيليات إذاعية ثم تلفزيونيه، كما ألف للسينما(معبودة الجماهير) و(فاطمة) وكان أول إنتاج مصطفى أمين كتابه (أميركا الضاحكة) عام 1943م.

وكالة المخابرات الأميركية «CIA»
تعرض مصطفى أمين للاعتقال مرات عدة، إلى أن ألقي القبض عليه بتهمة التخابر مع المخابرات الأميركية وصدر الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة في 21 آب عام 1966م، وفي عام 1974 أصدر الرئيس أنور السادات قراراً جمهورياً بالعفو عنه وتم تعيينه في العام نفسه رئيساً لتحرير أخبار اليوم.
هنالك روايات عدة حول تهمة التجسس التي أدين بها مصطفى أمين، فهنالك من برّأه منها وخصوصاً خصوم جمال عبد الناصر الذين كانوا حاسمين تماماً في أن القضية ملفقة وأن مصطفى أمين بريء من التهمة، ويقولون: كان مصطفى أمين مكلفاً من جمال عبد الناصر باستمرار الاتصال بالولايات المتحدة، وكانت القيادة تمده بما ينبغي أن يقوله لمندوبي أميركا، وأن ينقل إلى «جمال عبد الناصر» ما يقوله الأميركيون، وعندما ساءت العلاقات بين مصطفى أمين وعبد الناصر وغيره من القيادات قبضوا عليه وحاكموه بالمعلومات التي كانوا قد أعطوها له سلفا ليسلمها إلى المندوبين الأميركيين.
ولكن هنالك من يؤكد تعامله لصالح المخابرات الأميركية ويوجه له أشد التهم في الخيانة لوطنه.
صلاح نصر

هو رئيس المخابرات المصرية السابق، والذي ذكر في كتابه «عملاء الخيانة وحديث الإفك» الذي صدر في عام 1975 م أكد من خلاله، أن مصطفى أمين جاسوس فعلاً وشرح بالتفصيل علاقة مصطفى أمين بالمخابرات الأميركية والأكثر من ذلك ذكر صلاح نصر أن جهاز مكافحة التجسس كان يحتفظ بملف لـ«مصطفى أمين» حول علاقته بالمخابرات الأميركية حتى قبل ثورة تموز عام 1952.

« تيم وينر» و«بروس أوديل»
صدر في الولايات المتحدة الأميركية كتاب تحت عنوان «ميراث من الدماء.. تاريخ وكالة المخابرات المركزية الأميركية» والحائز على جائزة «بوليتزر» الأميركية الصحفية الشهيرة اعترافاً بأهميته ودقته، وهو من تأليف «تيم وينر» مراسل جوال لصحيفة «نيويورك تايمز»، وسبق له أن عمل في أفغانستان وباكستان وأغلب بلاد الشرق الأوسط ومنها مصر، وكان «تيم وينر» قد تابع لأكثر من عشرة أعوام أنشطة وكالة المخابرات المركزية الأميركية. كتاب «ميراث من الدماء» يقع في 702 صفحة يتناول وقائع جرت على مدى عهود 16 رئيساً للمخابرات الأميركية، وأهم ما يكشف عنه الكتاب هو صلة مصطفى أمين بالمخابرات الأميركية حيث كانت الـ«سي أي إيه» تدفع له الأموال مقابل الحصول على معلومات وعلى نشر تقارير إخبارية مؤيدة للسياسات الأميركية، كما يؤكد الكتاب بالوثائق والاعترافات والأدلة، حيث كان مصطفى أمين على قائمة من تدفع لهم المخابرات الأميركية مبالغ مالية، وأن مدير المحطة واسمه «بروس أوديل» كان يتقابل بصفة منتظمة مع مصطفى أمين في شقته بالزمالك.
وقد كشف محمد حسنين هيكل عن أن سر كشف عمالة مصطفى أمين لوكالة المخابرات المركزية الأميركية جاء من العراق لأن (بروس تايلور أوديل) مندوب وكالة المخابرات المركزية الأميركية في القاهرة والذي كان يتلقى المعلومات من مصطفى أمين أسبوعياً جاء إلى مصر مطروداً من العراق بعد نجاح انقلاب حزب البعث عام 1963م على نظام حكم «عبد الكريم قاسم»، وقام وزير الداخلية العراقي آنذاك «حازم جواد» بإبلاغ الأجهزة الأمنية المصرية بحقيقة «بروس تايلور أوديل» وطبيعة نشاطاته، لذا تم وضعه تحت رقابة صارمة من أجهزة الأمن المصرية منذ وصوله القاهرة، ومن خلال مراقبته تمت ملاحظة لقاءاته الأسبوعية مع مصطفى أمين، وتم إعلام الرئيس عبد الناصر بالأمر، فأصدر عبد الناصر قراره بوضع مصطفى أمين تحت المراقبة ما أدى إلى كشف عملية التجسس كلها. يقول هيكل: إن وكالة المخابرات المركزية الأميركية طلبت من مصطفى أمين تسجيل مكالماته مع الرئيس عبد الناصر ليقوم خبراؤها بتحليل صوت الرئيس لمعرفة حالته النفسية، كما طلبت منه توجيه أسئلة معينة للرئيس عبد الناصر لكي يتم تحليل إجابات عبد الناصر ومعرفة حقيقة نواياه وطريقة تفكيره، كما كان مصطفى أمين يسأل أطباء الرئيس عبد الناصر باستمرار عن حالة الرئيس الصحية ليقوم بتبليغها لضابط وكالة المخابرات المركزية الأميركية.

هيكل
وللكاتب الشهير حسنين هيكل قصة طويلة مع الصحفي مصطفى أمين، بدايتها «عسل» ونهايتها «سم» فهي علاقة يكتنفها التعقيد والغموض.
حين تم إلقاء القبض على مصطفى أمين في 21 تموز 1965 متلبساً مع مندوب المخابرات الأميركية بروس تايلور أوديل في حديقة منزل مصطفى أمين، وأثبتت الوقائع والأدلة أن مصطفى أمين يتجسس على مصر لحساب المخابرات المركزية الأميركية، وحوكم مصطفى أمين، وأدين وحكمت عليه المحكمة بالأشغال الشاقة المؤبدة.
طوال فترة المحاكمة، والسجن كان هيكل على اتصال دائم بمصطفى أمين، وقام بتوكيل محام للدفاع عنه، وكان يمده في سجنه بكل مستلزماته من أقلام، وأوراق، وأغذية، وأدوية، وحاول هيكل أكثر من مرة مع الرئيس عبد الناصر، أن يخفف الحكم عن مصطفى أمين، وأن يكتفى بكشف عمالة مصطفى أمين وأن يتركه يرحل خارج مصر. ولكن عبد الناصر رفض رفضاً قاطعاً ذلك، وقال لهيكل إنه لا يستطيع العفو عن الجواسيس.
وفي عهد الرئيس السادات قامت ابنتا مصطفى أمين رتيبة وصفية بزيارة إلى جيهان السادات مع أم كلثوم أملاً في التوسط من أجل الإفراج عن والدهما وذلك عام 1972، ولكنهما لم توفقا في الإفراج عنه فوراً، وبعدها قام السادات بإصدار قرار العفو عنه بعد هذه الزيارة بثلاث سنوات. وحول ذلك قال حسنين هيكل: إن الإفراج عن مصطفى أمين جاء ضمن صفقة لإرضاء الأميركيين، والسعوديين، وإنه أفرج عنه مع مجموعة من عملاء أميركا، وإسرائيل، وبطلب من كيسنجر، والأمير سلطان بن عبد العزيز، ويؤكد الصحفي الشهير ناصر الدين النشاشيبي على دور السعودية في الإفراج عن مصطفى أمين: «وبالفعل ومن خلال الوساطة السعودية مع السادات ولأسباب أخرى خرج مصطفى أمين من السجن قبل أن تنقضي مدة العقوبة».
وفي 27 كانون الثاني عام 1974، أصدر الرئيس أنور السادات قراراً بالعفو الصحي عن الكاتب الصحفي مصطفى أمين بعد قضائه 9 سنوات في السجن بتهمة التخابر لمصلحة وكالة المخابرات الأميركية «CIA» ضد مصر، ويذكر هنا أنه كانت هنالك علاقة غامضة جمعت مصطفى أمين، و«أم كلثوم»، وسبق أن كشفت المؤرخة المصرية، رتيبة الحفني، أن أمين تزوج أم كلثوم سراً.
وفي 31 كانون الثاني 1974 ترك هيكل صحيفة الأهرام، بعد تفاقم خلافاته مع الرئيس السادات، وتم تعيين علي أمين الشقيق التوءم لمصطفى، رئيساً لتحرير الأهرام، ومصطفى أمين رئيساً لتحرير صحيفة الأخبار، وبدأت حملة شرسة من الأخوين ضد الرئيس جمال عبد الناصر وعهده، بتشجيع من السادات، ونظامه، وبتمويل سعودي، وبتخطيط أميركي، وعبر استكتاب بعض الكتبة والصحفيين ممن يأكلون على كل الموائد، وهيكل كان أول من طالهم الأخوان أمين.
وفي عام 1984، أصدر هيكل كتابه (بين الصحافة والسياسة)، تناول فيه قضية مصطفى أمين، قال في مقدمته، إنه ينشر هذا الكتاب، وكل أطراف القضية على قيد الحياة، ومن أجل التاريخ، وتحدى أن يقوم أحد بتكذيب معلوماته ووثائقه.
ومما يذكره هيكل في كتابه، عن الأخوين علي ومصطفى أمين، أن دار أخبار اليوم تم إنشاؤها بأموال المخابرات الأميركية، بعد الحرب العالمية الثانية، عندما أيقنت الولايات المتحدة بخروجها منتصرة من الحرب، بدأت إنشاء سلسلة من دور النشر الصحفية التي كان عليها أن تروج لسياسة الولايات المتحدة، ونمطها في الحياة، وتدافع عن توجهاتها ومصالحها.
وأهم ما ورد في كتاب هيكل، وثيقة من 60 صفحة، بخط اليد تتضمن اعترافاً صريحاً من مصطفى أمين بعمالته للأميركان.
وأعاد هيكل طرح عمالة مصطفى أمين للأميركان مجدداً في كتابه (الانفجار 1967)، ونقل محضر لقاء بين الرئيس عبد الناصر وذو الفقار علي بوتو وزير خارجية باكستان آنذاك، يدين فيه الرئيس عبد الناصر مصطفى أمين وينقل لذو الفقار علي بوتو وقائع قضيته كدليل على تآمر الأميركان على مصر.
ويشار هنا إلى أن مصطفى أمين لم يرد لا من قريب ولا من بعيد على ما ذكره هيكل عنه وأنه عميل للمخابرات الأميركية.
المراجع: مقالة لعمرو صابح- مجموعة كتب لحسنين هيكل- حضرات الزملاء المحترمين لناصر الدين النشاشيبي- أرشيفي الخاص.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن