قضايا وآراء

«السترات الصفراء» و«الخوذ البيضاء»

| مصطفى محمود النعسان

حين بدأت تظاهرات «السترات الصفراء» من باريس، وامتدت إلى عدد من المدن الفرنسية استبدت قصيدة بدوي الجبل بذاكرتي أيما استبداد، وهي بعنوان: «إني لأشمت بالجبار» كتبها لمناسبة الغزو النازي لفرنسا واحتلال باريس عام 1941، ومطلعها:
يا سامر الحيّ هل تعنيك شكوانا
رقَّ الحديد وما رقوا لبلوانا
آمنتُ بالحقد يذكي من عزائمنا
وأبعد الله إشفاقاً وتحنانا
والحقُّ أن مناسبة القصيدة، كما أسلفنا، هي سقوط باريس بيد الألمان في الحرب العالمية الثانية، وقد كانت فرنسا تحتل سورية، وتعيث فيها فساداً ودماراً وتخريباً، كما عاثت فساداً ودماراً وتخريباً بالاشتراك مع محور الشر أميركا وبريطانيا وعدد من العربان الذين عاثوا فساداً جميعهم في سورية حين استغلوا قيام أصحاب حاجات تعرضوا لظلم هنا، أو غمط حقٍ هناك، أو استغلال في حين وموقع آخر من بعض ذوي الشأن أصحاب الضمائر الميتة والنفوس الضعيفة.
نعم شهد عدد من المدن السورية قيام تظاهرات حركها الغرب بالأساس في آذار عام 2011 من هؤلاء الأشخاص الذين سماهم الرئيس بشار الأسد في أحد تصريحاته أنهم أصحاب حاجات، ولكن ما حصل أن إسرائيل والغرب وفي المقدمة فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية استغلوا قيام هذه المجموعات القليلة ليدسوا بينهم من غايته تخريب الوطن، ورهنه للأجندات الخارجية، مَن حمل السلاح ووجهه إلى صدور حماة الديار.
لقد أعاد التاريخ نفسه، ويعيد ذلك أن الوحش الفرنسي الذي احتل سورية في العشرينيات وحتى الأربعينيات من القرن الماضي، وعانت سورية في ظله ما عانت من ويلاتٍ ودمارٍ وخرابٍ وقتلٍ وتشريد، ها هو ذاته طلَّ ويطلّ من جديد مستغلاً الوضع في سورية ليؤجج النزاعات في كلّ بقعة فيها، إلى أن وصل الأمر به مع من لف لفه وسار في ركبه إلى صنع واختلاق أصحاب «الخوذ البيضاء» ليفبركوا الأكاذيب، ويختلقوا الحجج والذرائع الواهية التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة، وذلك كله بهدف إيجاد ذرائع تمكنهم من توجيه حرابهم وجلّ حقدهم إلى سورية والاعتداء عليها كلما مُني أزلامهم ومرتزقتهم بخسارة أو انهزام في هذه الساحة أو تلك على امتداد مساحة الوطن.
قيام أصحاب «السترات الصفراء» محلّ شماتةٍ لنا كسوريين شرفاء أحرار رغم أن أخلاقنا لا تسمح لنا بالشماتة، ولكن ما عانيناه منهم لا يسعنا إلا أن نشمت ونستهزئ وألا نكون سذجاً وبوهيميين ذلك أن مطالب أصحاب «السترات الصفراء» الذين زاد عددهم على 125 ألفاً في بدء جولتهم الرابعة لم تنحصر بمطالبة الحكومة الفرنسية بتخفيض أسعار المحروقات وتقليل الضرائب، أو إلغائها بل طالت مطالبهم رأس النظام الفرنسي إيمانويل ماكرون حيث طالبت برحيله وإسقاطه، علماً أنها حركات عفوية لم يحركها مشغِّل أجنبي، أو مستثمر خارجي كما كان عليه الحال في سورية، حيث تداعى الأكلة على قصعتها كما تتداعى الكلاب، والسبب الجوهري في كل ذلك أنها لم ترهن قرارها للأجنبي ولم تعرف المساومة على حقّ أو تهادن الباطل وتلوي عنقها لغادرٍ، أو تنحني لمعتدٍ أثيم.
نعم، إذا كان للباطل جولة فإن للحق جولات وجولات، وها هي باريس وبعض المدن الفرنسية تشهد هذه الحركات العفوية من أصحاب «السترات الصفراء» وكل المؤشرات والدلائل تؤكد أنها في ازدياد وتنامٍ، ولن تعود عن مطالبها أو تتراجع عن محدداتها حتى تسقط الحكومة الفرنسية ليس ذلك فحسب بل حتى يسقط رأس النظام في باريس، وهنا يصح المثل القائل «من حفر حفرة «لغيره» وقع فيها» فالحفرة التي أراد ماكرون حفرها لسورية سيقع فيها شرَّ وقعةٍ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن