ثقافة وفن

467 من التراكيب الإعلامية الحديثة في معجم «المفيد»…د. محمد رضوان الداية يعمل على الجمع والشرح وتأصيل الأساليب الإعلامية

 إسماعيل مروة : 

يعاني المتحدث بالعربية من إشكاليات عديدة، منها الفصيحة والعامية، ومنها الصواب والغلط الشائع، ومنها الأساليب العربية الأصيلة، والأساليب الوافدة، وإن كان الجميع قد يتفق مع مسألة الفصيحة والعامية، إذ تشكل الفصيحة حتى عند غير محبها أو مجيدها وسيلة التعبير التي لا لبس فيها، فإن الأمر اتسع في الحديث عن الصواب والغلط الشائع، إذ إن الغلط الشائع كلام فصيح، لكن اللغويين انبروا للحديث فيه وتخطئة قائله، ولهذا الأمر صنفت عشرات المؤلفات، لعلّ أشهرها ما كتبه العدناني في معجميه، والمتفحص يجد أن العدناني نفسه اختصر في معجمه، وكثير من الأغلاط لا سند لتخطئتها إلا أنها لم ترد عن العرب، وأطرف ما في الموضوع أن الذين صنفوا في الأغلاط الشائعة وقعوا في الأغلاط مرات ومرات، وإن دل ذلك على أمر، فإنما يدل على أن البحث أمر مختلف عن الكتابة والحديث، أما ما يتعلق بالأساليب الوافدة، فقد سلك ناقدوه مسلكين، أولهما الحديث عن العجمة والترجمة، وثانيهما دخل في إطار الأغلاط الشائعة.

المعجمية وضرورتها

تدعو الحاجة إلى حركة معجمية نشطة للغاية، خاصة فيما يتعلق بالأغلاط الشائعة والأساليب الوافدة، وثمة فرق جوهري بينهما، فبينما يتعلق الأول بالمفردات والتراكيب، اقتصر الثاني على التراكيب والأساليب، وقد قام عدد من اللغويين بينهم المغربي وأحمد مختار عمر، وسواهم بتتبع وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وصنفوا في أخطاء الكتَّاب، وفي أخطاء المذيعين والصحفيين، وبين الأخطاء الشائعة، والتراكيب الوافدة ضاعت صورة الكتب المصنفة، وخضعت للمزاجية، خاصة وقد أشرت إلى أن الأخطاء الشائعة والتراكيب فصيحة اللفظ، وليس فيها شبهة الغلط الصريح، وأطرف ما في الموضوع أن ينبري مجمعيون للحديث عن الأغلاط، ومن ثم تقوم المجامع بالإجازة، بل إن بعضهم وقد صنف في حقبة حديثة لم يلتفت إلى ما أجازه مجمع اللغة العربية في القاهرة ضمن معجم الوسيط الذي صدر عنه حاملاً كل ما أجازه المجمع، وذهب بعضهم إلى تخطئة المجمع وأعضائه، والانتقاص من المعجم الوسيط! وعلى هدي المعجم الوسيط سار أبو حرب في المعجم المدرسي الصادر عن وزارة التربية في سورية، ومع ذلك نجد في وسائل إعلامنا من يظهر أو يتحدث عن هذه الأغلاط، ويصنع لها البرامج والزوايا اللغوية بغاية الارتزاق، وصناعة برنامج أو زاوية لا أكثر، وهو أي صاحب الإطلالة يقع في أغلاط أكثر فداحة مما أشار إليه، وربما في الزاوية نفسها!
من هنا كانت الحاجة إلى حركة معجمية لم تبدأ حتى اليوم لا تعتمد على التخطئة والتصويب بقدر ما تعتمد الجمع والشرح، ومتابعة أقيسة العرب، سواء جاء هذا عن العرب أم لم يأت، والأفضل أن تصدر مثل هذه المعاجم عن متخصصين خبروا اللغة كما يجب.
في هذا الإطار جاء جهد أستاذنا الدكتور محمد رضوان الداية (المفيد- معجم إعلامي بلاغي مصطلحي) الصادر ضمن سلسلة آفاق ثقافية عن وزارة الثقافة السورية، والدكتور الداية من التراثيين المتخصصين، ومن الحريصين على التراث، ولكن انخراطه في الإعلام بمختلف صنوفه منذ عقود طويلة، جعله أكثر قرباً من الواقع اللغوي السليم، وأبعده عن اللغة المتحفية التي هو خير من يعرفها ويقدر على ممارستها، لكنه أدرك عدم جدواها.
المفيد تصنيف لا تصويب

يدخل «المفيد» ضمن المنظومة المعجمية في جهود الدكتور الداية السابقة، منها «معجم الكنايات الشامية»، وضمن اهتمامه بالأدب الشعبي، وفي الوقت نفسه يسلك هذا المعجم في مدرسة لغوية متصالحة مع اللغة والواقع، وجهودها تنصب في مصلحة اللغة، بدأها الشيخ أحمد رضا صاحب (متن اللغة) في كتابه «رد العامي إلى الفصيح» إذ أماط اللثام عن طائفة من الكلمات والتعبير التي يظن متحدثوها واللغويون أنها من العامي، وهي من الفصيح الذي خضع لمؤثرات بيئية أو غيرها مثل «إيش» وهي تعبير محلي عن «أي شيء» وهكذا، وفي معجمه الكنايات الشامية قام الدكتور بجمع الكنايات وشرحها، وأعادها إلى الفصيحة وما يشبه أو يقترب.. أما في «المفيد» وبسبب جهوده الإعلامية، فقد خصّ الإعلام بمختلف تخصصاته الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، فجمع هذه التعابير والتراكيب والأساليب، وقام بشرح مدلولاتها التي جاءت من التواصل مع الحضارات الأخرى، وهذا الجهد يجب أن يكون بين أيدي الإعلاميين لاعتماد الدلالات للتراكيب، وهو بهذا يسلك ضمن سلسلة المعاجم الدلالية، وهذا ما جعله يعنونه بمعجم إعلامي بلاغي، وليس بصفة المعجم اللغوي.
جمع الدكتور الداية في «المفيد» 467 تركيباً لغوياً يكثر ورودها في الإعلام بجهد كبير، ولم يكتف بالجمع المعجمي، وإنما صنع لهذه التراكيب شروحاً مفيدة، ما جعل المعجم يقع في 448 صفحة من القطع الصغير، وفي شرحه جهد واضح فهو يشرح وقد يعيد التركيب إلى الأساليب العربية ويؤصله، ويأتي بالشواهد النثرية والشعرية، ومما جاء في هذا المعجم من تراكيب:
سجناء الضمير، قراءة ما بين السطور، السلطة الرابعة، اسمه مدرج في القائمة السوداء، الشارع السياسي، الشرق الأوسط الجديد، نيران صديقة، الطابور الخامس، حكومة الظل، مبان عشوائية، يغرد خارج السرب. كل التراكيب تستحق الاستعراض وتظهر مقدار الجهد في تأصيلها، ووضعها في السياق الحقيقي الذي يجعل استخدامها سليماً ومدعوماً بالأدلة.

ليست التراكيب من فراغ
لم نجد في المعجم أي إشارة إلى الغلط والصواب، بل هو تناول للواقع وشرحه، وهذا أبعد الكتاب عن المماحكة والأستذة، وجعله معجماً جامعاً، يقدم التركيب المناسب مع دلالته وكنايته، ولا يخفى على القارئ ما تحمله التراكيب من كنايات ودلالات، خاصة في عالم السياسة، وحتى نعرف الطريق التي اختطها الدكتور الداية للمعجم، لابد من الوقوف على أمثلة كاملة توضح منهجه وأسلوبه، والفوائد التي نجنيها منها: «الانحناء للعاصفة: عبارة اجتماعية وسياسية، وفيها كناية عن «التقية الاجتماعية السياسية، والمداهنة، ومجاراة الحال الحاضرة ريثما تسنح فرصة آتية»، ويقولها من أراد الالتحاق بالركب الحاضر مدلّساً على أصحابه، ومغطياً تغيير قناعاته السابقة، ويقولها المتقاعس أو الذي جرب العقوبة، كالسجن، وأراد الاستراحة. وكثيراً ما خيّب سياسيون آمال أصحابهم، وأولئك الذين علقوا عليهم رجاء عظيماً!
رفع السقف: يكون- في المعتاد- في البناء، قد توجد في بعض الغرف، في البناء العربي القديم، حاجة إلى أن يكون السقف عالياً، وقد يكون ذلك عن ذوق خاص، أو لضرورة بيئية… إلى غير ذلك، واستعاروا عبارة «رفع السقف» أو: رفع سقف المطالب لغرض سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي، يزيد أحد الطرفين في شروطه ومطالبه مرة بعد أخرى، مستغلاً- في الأغلب- تباطؤ الطرف الآخر في الاستجابة للمطالب الأولى.
وشاع استعمال العبارة في أمور مختلفة.. وغلب على الاستعمال في وجوه من السياسة.
وقالوا في عكس هذا: خفض السقف.
ويقال: فلان سقفه عال دائماً: تعود على هذا وله أساليبه في إنجاز ما يريد).
تحار وأنت تختار للعرض، فكل ما في (المفيد) يمكن أن يكون مختاراً، وقد وقفت عنده لأنه بحق أول معجم دلالي يجمع التراكيب ويشرح معناها المباشر، ثم يعود إلى الكناية في استعمالها، يستحق أن يكون مرجعاً لكل إعلامي وسياسي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن