قضايا وآراء

في الساحة التي لا توجد فيها يوجد فيها عدوك؟!

د. أسامة سماق : 

مسلسل المقالات التي ينشرها الدكتور زهير الفتيح مؤخراً على الفيس بوك عن أحداث انهيار الاتحاد السوفييتي، حرضت لدي الرغبة في تناول هذا الحدث العظيم ولكن من جانب آخر.
بالعودة إلى مطلع القرن العشرين وحالة الاحتقان التي عاشتها أوروبا وأدت إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى 1914-1918، نجد أن النتائج الأساسية لهذه الحرب زوال ثلاث إمبراطوريات وهي بالتوالي: العثمانية والنمساوية -المجرية والإمبراطورية القيصرية الروسية.
على أنقاض الإمبراطورية الروسية تأسس الاتحاد السوفييتي بعد انتهاء الحرب الأهلية الروسية والتي اندلعت بعيد ثورة الاشتراكية واستمرت خمس سنوات 1917-1922.
أعلنت اتفاقية اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية 29 كانون الأول من عام 1922. وللمفارقة التاريخية أنزل العلم الأحمر عن سارية الكرملين في آخر كانون الأول 1991.
بإعلان قيام الاتحاد السوفييتي أصبح الدولة الوحيدة في العالم التي لا تحمل اسما تقليدياً فكلمة سوفييت «soviet» بالروسية تعني المجلس وبذلك يصبح اسم الدولة اتحاد المجالس، ولكن مجالس من؟ أي مجالس العمال والفلاحين والجنود الثوريين، وقد شكلت هذه المجالس لا حقاً برلمانات الدولة الاشتراكية والجمهوريات والأقاليم المنضوية في الاتحاد السوفييتي.
مما تقدم أصبح واضحاً أن الاتحاد السوفييتي كان دولة مؤدلجة حتى النخاع فحتى اسم الدولة كان إيديولوجياً بالمطلق.
هذه الإيديولوجيا جاءت لمواجهة إيديولوجية رأس المال في الغرب واحتكارها لتاريخ وحاضر ومستقبل شعوب الأرض، وهي التي أعطت الشرعية لقادة الاتحاد السوفييتي في مساعدة حركات التحرر في العالم وفي نيل شعوب الأرض لاستقلالها وتحررها من نير الدول الأوروبية المستعمرة.
وفي هذا السياق وبعد إخفاق نائب الرئيس ينايف ومجموعة من رموز القوة في الاتحاد السوفييتي آنذاك إنقاذ الدولة من الانهيار، ما درج على تسميته بمحاولة الانقلاب الفاشل، قام رئيس جمهورية روسيا الاتحادية بوريس يلتسين باستغلال الفوضى واللا يقين اللذين أحدثهما الانقلاب بتوقيع مرسوم حظر نشاط الحزب الشيوعي السوفييتي ومصادرة أملاكه على الأراضي الروسية، وبوجود غورباتشوف الذي أعلن استقالته من رئاسة الحزب بعد إخفاق محاولة الانقلاب، جرى ذلك في 23/8/1991.
كان توقيع يلتسين لمرسوم حظر نشاط الحزب الشيوعي السوفييتي يعني توقيع شهادة وفاة الاتحاد السوفييتي، فقد سحب الغطاء الإيديولوجي عن الدولة السوفييتية وسقطت شرعيتها وانتهت مبررات وجودها.
شهد العالم بعد ذلك هجمة شرسة على الايديولوجيا وعلى الدول الإيديولوجية والتنظيمات والأحزاب التي تعتمد الايديولوجيا في برامج عملها وتركزت هذه الهجمة في الشارع السياسي الروسي ودوّل الاتحاد السوفييتي السابق ودوّل أوروبا الشرقية….. ودوّل ما كان يسمى بالعالم الثالث وخاصةً في الدول العربية.. تحت شعار أن عصر الايديولوجيا قد ولّى وأن هذا العصر كان السبب في الاستبداد وإفقار الشعوب، وفي الوقت نفسه استمر ايديولوجيو الغرب في (إبداعهم) ونشرت أعمال هنتغتون وفوكوياما وتوينبي (صراع الحضارات، نهاية التاريخ، التحدي والاستجابة.. الخ) معلنة الانتصار النهائي للرأسمالية وايديولوجيتها في الديمقراطية وسيادة اقتصاد السوق كنمط حياة وصولاً إلى العولمة في عالمٍ وحيد القطب يمتثل فيه الضعفاء لأوامر الأقوياء.
وهنا لابد من أن نشير إلى أن الايديولوجيا لم تكن يوماً ملكاً لدولةٍ أو نظام أو تنظيمٍ سياسي. فهي ببساطة تعني العقيدة والتي واكبت الإنسان منذ خلق على هذه الأرض وصراع الخير والشر والظالم والمظلوم، وهكذا ستبقى حيث إنها لم تغب يوماً عن نشاطه وخاصةً بعد أن قام بتأسيس التجمعات الإدارية المختلفة من قبلية وعشائرية ودينية وعرقية حتى ظهرت مؤسسة الدولة التي بدأت ملكيات مختلفة تحمل عقائد متشابهة أو متناحرة أدت إلى حروب طاحنة إلى يومنا هذا فلا يكاد يمضي عام إلا ويتحفنا منظرو أميركا بمصطلح ايديولوجي جديد من اقتصاد السوق إلى العولمة إلى عالم وحيد القطب إلى الشرق الأوسط الجديد إلى الربيع العربي….. إلى الثورات البرتقالية….. الخ.
إذا المحرك الأساس للبشر تبقى العقيدة روحانية كانت أو مادية. وللأسف فقد تماهت مع ماكينة الدعاية الغربية ضد الايديولوجيا بعض النخب الثقافية وبعض الدوائر الحاكمة الروسية والعربية وركبوا التيار…. حتى تم تغييب الايديولوجيا العلمانية التي أدارت الشارع العالمي خلال عقودٍ طويلة وامتلكت من الخبرة ما سمح لها بالتكيف مع إفرازات التطور والحداثة، حيث أظن أنها كانت تستطيع بذلك مقارعة الأيديولوجيا المتطرفة الغازية والتي بدأت بقرع أبوابنا منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وفقدان جيل الشباب الأمل في المستقبل وحلول حالة من الضياع في أوساطهم.
إلى ذلك وإذا حاولنا أن نوصف الحالة الراهنة في العالم نرى جلياً غرباً متماسكاً أيديولوجيا يدير اللعبة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم ما يخدم مصالحه مستغلاً انتشار الأيديولوجيا الدينية ورواجها بين شباب الشرقين الأوسط والعربي على حساب فراغ الساحة في هذه الدول من أيديولوجيا علمانية نقيضة وقادرة على المواجهة.
في المقابل تحاول روسيا والصين وحلفاؤهما مقاومة هذه الهيمنة بما استطاعت من قوة رافعة شعار التمسك بالقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة التي كانت روسيا أحد صناعه في نهاية الحرب العالمية الثانية والتي كانت تحتل حينها دور الدولة الأعظم الأخرى في هذا العالم حاملةً اسم الاتحاد السوفييتي، ورغم اعتراف العالم بها كوريث قانوني لتلك الدولة السوفييتية إلا أن روسيا لم تستطع أن تكون الوريث الحقيقي لجبروت الاتحاد السوفييتي العسكري والاقتصادي من جهة ولا من حيث انتشار نفوذها الدولي من جهةٍ أخرى.
تأسيساً على ما تقدم فإننا نخلص إلى التالي:
1- لقد كان تخلي قيادة روسيا الاتحادية في التسعينيات عن الأيديولوجيا خطأ تاريخياً يرقى إلى مستوى الخطيئة. فقيادة الرئيس بوتين تحاول إحلال الوطنية لملء الفراغ الذي سببه أفول الأيديولوجيا الشيوعية، ولكن فكرة الوطنية لم تكن يوماً دواءً شاملاً لكل الأمراض، فلا أظن أنه سيوفق في ذلك في بلدٍ يحوي أكثر من مئة قومية ويشكل المسلمون 15% من العدد الإجمالي للسكان.
2- إن محاولة الدب الروسي اقتطاع حصته في الصراع مع الذئب الأميركي على مناطق النفوذ في العالم محاولة شجاعة وجريئة، ولكن أخشى أن تكون مبكرة ضمن موازين القوى الحالية التي تحكم السياسة الدولية والتي تميل بشكل حاد لصالح الذئب الأميركي.
3- إن الفراغ الأيديولوجي الذي تعيشه الساحة الروسية وعدم قدرتها تسويق عقيدة مقنعه لشعبها أولاً وللعالم ثانياً كبديل لأيديولوجية العولمة الأميركية، يشكل ضعفاً إستراتيجياً في الصراع الجيوسياسي للحد من الهيمنة الأميركية.
4- وفي منطقتنا فإن تلاشي الأفكار العلمانية وتراجع المعتقدات القومية والاشتراكية والتحررية لصالح الأيديولوجيا الدينية بأشكالها المختلفة أدى إلى ملئها الفراغ الذي تشكل نتيجةً لذلك، وجرت شعوب المنطقة إلى التاريخ بعد أن استقالت من حاضرها وطلّقت مستقبلها.
5- لقد دقت ساعة الحقيقة وظهر للجميع في روسيا زيف ماكينة الدعاية الغربية والتي سببت ومازالت تسبب الكوارث السياسية والاقتصادية، وآن الأوان لمواجهتها بدعاية مدعومة بعقيدة جديدة يصنعها عباقرة روسيا الذين عرف العالم قدراتهم الجبارة.
4- أما بالنسبة لمنطقتنا فقد شاركت النخب العربية عن قصدٍ أو من دون قصد في إفراغ الساحات الوطنية كي يحتلها خصومنا التاريخيون وأعداؤنا الأيديولوجيون. وسيسجل لنا التاريخ تقصيرنا هذا كما ستحفل أبحاث المستقبل بدروس حول ما يجري قد تفيد الأجيال القادمة.
5-إنني أدعو هنا إلى الخروج من وحول الوهم الذي سيطر على عقولنا في لحظات تاريخية مشؤومة من أن الأيديولوجيا التي كانت تغطي مسيرتنا كانت كابحة للتطور، فالأحداث أثبتت أن البديل سيكون أيديولوجيا فاشية متطرفة وقاتلة للحاضر والمستقبل.
خلاصة القول أن القضايا الفكرية تبقى قضايا في منتهى الخطورة، فإما أن نتصدى لها ونفسح المجال للنخب الاجتماعية في معالجتها أو نكون قد جردنا أنفسنا من أهم الأسلحة والوسائط وأحدثنا طوعاً الفراغ الذي ينتظره خصومنا والذين شرعوا بالهيمنة عليه فكرياً وأيديولوجياً ما يجعلنا على موعدٍ مع المجهول.
ففي المكان الذي لا تتواجد فيه يتواجد عدوك.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن