قضايا وآراء

سايكس بيكو مستمرة.. ولا تعديل عليها

عبد المنعم علي عيسى : 

كثيراً ما أبرزت المئات من التقارير أو التحليلات التي كانت تعرضها وسائل الإعلام المختلفة على تباين أنواعها ومشاربها- تناول مشروع أميركي- غربي يحضر للمنطقة ويهدف إلى تفكيكها ما يعني قيام خرائط جديدة في المنطقة، كانت تلك التحليلات تستند في رؤياه على الغزو الأميركي للعراق (آذار- نيسان 2003) الذي يمثل اللبنة الأولى وحجر الأساس في ذلك المشروع.
بالتأكيد هناك الكثير من المبررات التي تجعل من التحليلات السابقة صحيحة وبدرجة كبيرة، إلا أن تعاطي الغرب مع مشاريع كهذه لا يكون بصيغة «انتهاء الأمر» بعد أن يتم اتخاذ القرار فيحسم الجدال فيه حتى في ظل أي متغيرات يمكن أن تحدث بل على العكس من ذلك فقد كان ظهور معطيات جديدة غالباً ما يؤدي إلى العودة حتى بالقرارات المتخذة إلى نقطة الصفر ولا أدل على ذلك من التسريبات الإسرائيلية الأخيرة التي أعلن فيها أيهود باراك أن المسافة التي تفصل ما بين تل أبيب وقصف المنشآت النووية الإيرانية كانت شبه معدومة في مراحل عديدة من الأعوام 2010- 2012- 2013، والأمر نفسه ينطبق على سورية بالتأكيد حتى وإن لم تتوافر لنا حتى الآن تسريبات دالة على ذلك.
من الممكن الإشارة إلى أن الشراهة الأميركية لتفتيت المنطقة كانت قد اتضحت بجلاء منذ انطلاق ما سمي بـ«الربيع العربي» يستدل على ذلك عبر الدور الذي مارسته واشنطن في تغذيتها للصراعات العرقية والطائفية والدينية في العديد من البلدان، إلا أن مستجدات عديدة قد حصلت فأجبرت الأميركان على النظر إلى تلك المسألة (تفتيت المنطقة) من زاويتين أخريين:
الأولى: إن تشغيل محركات الصراعات اللازمة لحدوث التفتيت كالصراعات المذهبية أو القومية وما تتطلبه من استدعاء للموروث التاريخي بما يحتويه من أخطاء فادحة كرستها مراحل الجهل والظلام، من شأنه أن يؤدي إلى حالة اضطراب قصوى لن تنحصر مفاعيلها إقليمياً بل ستتعداها وصولاً إلى العالمية ولا يستبعد هنا أن تأخذ المنطقة وضعية منطقة البلقان التي شكلت بؤرة لاندلاع حربين عالميتين 1914 – 1939، فقد أثبتت تجربة «داعش» أن المكون الإسلامي المنتشر في الغرب لم يتم عملية انصهاره في المجتمعات التي يعيش فيها وبقي محافظاً على موروثه الإسلامي والشرقي القابل للاستدعاء في أي لحظة وفي أي مكان يراد له أن يكون فيه.
الثانية: في ظل الاستقطاب الإقليمي الحاد الناجم عن بروز قوتين إقليميتن بارزتين هما تركيا وإيران فإن من شأن حدوث التقسيم في هذه المرحلة أن يؤدي إلى تراصف الدويلات المنشطرة وراء أحد المحورين اللذين تتزعمهما كل من أنقرة وطهران، الأمر الذي قد يعيد المنطقة إلى وضعية القرن السادس عشر عندما كان الصراع على أشده بين الصفويين والعثمانيين، وما هو مهم غربياً هنا هو أن السلطنة العثمانية التي حسمت الصراع مع الصفويين لمصلحتها عادت لتدق أبواب فيينا في العام 1529 م.
هذا إضافة إلى أن قوى التقسيم (الداخلية والخارجية) كانت على الدوام كما يظهر تاريخ المنطقة ما بعد سايكس بيكو هي أضعف بكثير من نظيرتها (الداخلية والخارجية أيضاً) التي تؤيد بقاء هذه الخرائط، ظهر ذلك في عراق عبد الكريم قاسم وعراق صدام حسين عندما حاولا ضم الكويت في عامي 1961- 1990 على التوالي، كما ظهر في التجربتين اللبنانية (1975- 1989) والعراقية (2003- 2015)، مما سبق يمكن الاستنتاج أن القرار الأميركي- الغربي فيما يخص المنطقة هو باختصار «لا خرائط جديدة في المنطقة».
وبناء عليه من الممكن فهم الإصرار الأميركي الذي لم يتوقف عن رفض قيام منطقة عازلة في الشمال السوري (أو تحت أي مسمى آخر) ولا يرجح هنا أن تكون هناك ازدواجية في الموقف الأميركي بمعنى أن يكون «المعلن» هو غير «المبطن» إذ إن هناك العديد من المؤشرات التي تدحض ذلك لعل أبرزها- وأقربها- كان قرار الناتو بسحب بطاريات صواريخ الباتريوت 18/8/2015 من الحدود السورية- التركية في لحظة لها الكثير من المدلولات السياسية التي لا تنحصر فقط في رفض واشنطن لقيام منطقة عازلة.
من يتابع التصريحات التركية ير أن السلوك السياسي التركي ذاهب باتجاه أن قيام تلك المنطقة هو تحصيل حاصل، أو أنه آت لا محالة، وفي الممارسات نرى أنقرة تسعى بحده نحو تأمين الشريك الافتراضي لها على الأرض السورية والذي سيمارس دور البيدق التركي حيث من الممنوع- كما يبدو- حضور هذا الأخير أصالة عن نفسه، فأردوغان يدرك أن من شأن عودة أي جثة لجندي تركي من الأراضي السورية أن تؤدي إلى انهيار التوازنات السياسية الداخلية التي لا يزال حزب العدالة والتنمية عائماً على سطحها حتى اللحظة.
مؤخراً بدا لوهلة قصيرة أن رهان أنقرة قد استقر على حركة أحرار الشام إلا أن ذلك سرعان ما تبين عقمه في ظل الحاجة إلى موافقة أميركية تبدو غير ممكنة على خلفية علاقة الحركة الرحمية مع جهة النصرة، وعلى الرغم من تلك القفزات الأرنبية التي قامت بها أحرار الشام في الآونة الأخيرة فإن ذلك لم يؤمن لها تبديلاً في المناخات الإقليمية (ولا الدولية) ما يمهد لقيامها بذلك الدور الذي كانت أنقرة (تسمنها) لأجله، فقد كان إعلان الحركة عن إعادة هيكلة لجناحها العسكري 24/8/2015 لكي يكون نواة لجيش نظامي (كما قيل) أشبه بأن يقوم الهنود الحمر بالفعل نفسه على الأرض الأميركية، كما كان نفي الحركة أيضاً 25/8/2015 لأي صلة لها بتنظيم القاعدة أشبه بإعلان يشهره أحد المصريين مثلاً ويقوله فيه إنه لا ينتمي إلى الشعب المصري ولا إلى مصر.
على خلفية ما سبق ذهبت أنقرة نحو إيجاد نوع من التقارب بين حزب الإخوان المسلمين وبين حركة أحرار الشام يرقى إلى درجة الانصهار حيث من الممكن لكل واحد منهما أن يكمل الآخر، فالحزب يمكن أن يشكل «واجهة سياسية» لقوة عسكرية لا يملكها هو، وهي القوة العسكرية لا تملك أن تكون واجهة سياسية لأسباب باتت معروفة.
لا دخان من دون نار، ولا يكفي بيان حزب الإخوان المسلمين الصادر 25/8/2015 والذي نفى فيه أي توجه نحو الاندماج مع حركة أحرار الشام للقول إن هذا الأمر محض إشاعة وليس أكثر، إلا أن ذلك لا يعني أن طريق الاندماج المفترض سيكون مليئاً بالورود، ليس بسبب تباعد فكري هو غير موجود بين الاثنين، وإنما لأن النهج الذي اعتمدته الحركة كان على الدوام يقوم على عدم السعي نحو الاندماج مع تشكيلات عسكرية أو سياسية كبيرة أو بارزة خشية الانصهار فيها حفاظاً على هويتها، وهو ما تجده الحركة في اندماجها مع الحزب بصورة مؤكدة على خلفية الدعم التركي اللامحدود الذي يتلقاه هذا الأخير، هذا إضافة إلى وجود معضلة أخرى تتمثل فيمن سينصهر فيمن؟ بمعنى آخر لمن ستكون الزعامة في ذلك الاندماج؟ حيث سيشكل أي تنازل لكلا الفريقين (وهو ما تتطلبه عملية الاندماج) إحراجاً أيديولوجياً كبيراً لكل منهما في ظل التعبئة الفكرية التي يمارسها كلا الطرفين والتي تقوم على أنه هو ولا أحد غيره يملك المسار الإسلامي الصحيح.
في ظل هذه الظروف المعقدة من الصعب للمشاريع التركية أن تحقق النجاحات التي يطمح أردوغان لتحقيقها، بل حتى ولو بعد حين، حينما يستكمل جيش التركمان بناءه حيث سيكون الاعتماد على هذا الأخير بمنزلة خنجر تركي في الخاصرة السورية الرخوة وهو ما لا يمكن قبوله حتى للعديد من حلفاء أنقرة بما فيهم جبهة النصرة والعديد من التشكيلات التي تدور في فلكها.
هذا المسعى التركي ومع تركيا برمتها أمام محطة أكثر من مهمة تمثلها الانتخابات التركية التي ستجري 1/11/2015 والتي يشير العديد من المؤشرات على أنها لن تأتي كما تشتهي الرياح الأردوغانية، وإن كان هذا الأخير لن يستسلم بسهولة أمام مسار من هذا النوع فهو مستعد لتقديم عشرات الآلاف من القرابين البشرية أملاً في تغير وجهة تلك الرياح.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن