ثقافة وفن

10 سنوات من التجسس الأميركي على ري برادبيري…الخيال العلمي ميدان خصب للتجسس يزيد في حجمه عما تم في الثقافة والفن

 مها محفوض محمد : 

إذا أراد الزائر للعاصمة الأميركية واشنطن التعرف على متاحفها ظناً منه أنه سيشاهد قيمة تراثية ما أو موروثاً ثقافياً غنياً كالذي يراه في المتاحف التي تقوم بعرض التراث الحضاري والتاريخي الإنساني لبلدانها بطريقة ممتعة والتي تلعب دوراً مهماً في إيصال المعلومة الصحيحة للزائر حول تاريخ البلاد وتراثها فإن الزائر لأي متحف في واشنطن يقف بداية أمام بناء ضخم مدهش في بنائه وزخرفته من الخارج لكن ما إن يلج إلى داخل المتحف حتى يخيب أمله في ما لا يرضي فضوله، فمن متحف التاريخ الطبيعي الذي يزخر بأكبر مجموعة من عظام وجماجم الهنود الحمر إلى باقي المتاحف التي جلبت محتوياتها وسرق أغلبها من متاحف شتى في العالم، فهذه الدولة العظمى التي لا تمتلك حضارة متاحفها عامرة البناء فقيرة المحتوى، عدا متحف واحد لديها هو متحف الجاسوسية المتحف الوحيد الذي يقدم صورة حقيقية عن حضارة أميركا في التجسس على العالم ويعرض تحفاً أصلية من أدوات التنصت والأجهزة المختلفة التي استخدمت في عمليات التجسس الأميركي ما يستدعي دقة الملاحظة لدى الزائر- ومدير المتحف بالطبع هو أحد عناصر المخابرات المركزية CIA لمدة 35 عاماً- ذلك أن الجاسوسية هي المهنة الأعرق في تاريخ أميركا وحضارتها. وها نحن كل يوم نسمع بفضيحة جديدة تكشف عن عملية تجسس أميركي في بقعة ما من العالم وفي الولايات المتحدة ذاتها ولم ينج حتى المثقفون الأميركيون من تجسس حكومتهم عليهم.

فقد كشف جهاز الاستخبارات الفيدرالي FBI منذ أيام عن عملية تجسس قام بها منذ عقود حول الكاتب الكبير ري برادبيري الذي يعد أبرز روائي في أدب الخيال العلمي ويبدو أن أعمال هذا الروائي كانت موضوع تحقيق قاده جهاز الاستخبارات المتنفذ على مدى عشر سنوات من خمسينيات القرن الماضي لدى اشتباه العملاء بأن الكاتب الرؤوي له ميول شيوعية لدى نشره بعض الأعمال التي رأوا فيها أفكاراً خطيرة في تلك الحقبة ما بعد المكارثية (هي اتجاه سياسي هدفه تشديد الرقابة على الشيوعيين وخاصة الموظفين في الدولة واستخدام هذا المصطلح نسبة إلى جوزيف مكارثي للتعبير عن إرهاب ثقافي استخدم ضد المثقفين عام 1950) ويبدو أن هذه الأفكار قدمت تبريراً لفتح التحقيق حيث حاولت المذكرات التي قدمها عملاء FBI ونشرتها ديلي بيست أن تنسج علاقة ما بين كتابات الروائي والايديولوجية الشيوعية فصور المحقق أن الهدف العام للكاتب هو تخويف أكبر شريحة من المجتمع ودفعهم إلى الدخول في حالة سبات نفسي قريب من الهيستريا لإكراههم على الاعتقاد أنه إذا وقعت حرب عالمية ثالثة فلا يمكن للأميركيين ربحها وسيخسرون حتماً بعد أن تكون قواهم المعنوية قد دمرت.
بعد أكثر من نصف قرن ولدى قراءة هذه النسخة البوليسية يبدو أن محرري FBI قد خلقوا معتقداً وهمياً مناسباً لروائيي الاستباق حيث كانت محاربة الشيوعية إحدى هواجس CIA وFBI من العام 1953 إلى العام 1975 أي في مرحلة المكارثية ومع نهاية حرب فيتنام حيث تم اتهام مفكرين وشخصيات بارزة بالانجذاب إلى الشيوعية، فإضافة إلى ري برادبيري وجهت التهمة إلى كل من الكتاب توماس مان وآرثر ميلر وإلى شارلي شابلن والمخرج جيل داسان وألبرت اينشتاين وإلى المناضل مارتن لوثر كينغ وإلى ريجينا ويندر والدة بطل الشطرنج بوري فيشر، والقائمة تطول لكثيرين غيرهم.. وقد علم برادبيري قبل وفاته بوجود هذا التقرير حيث أخبره بذلك سام ويلير أحد كتاب سيرته الذاتية وكان الكاتب الكبير قد أشار إلى ما تقوم به وكالات الاستخبارات من عمليات تجسس قائلاً: لم يكن عندي شيء أخفيه طوال تلك السنين ولن أتأثر بأي عملية خسيسة كهذه.
ري برادبيري هو أعظم كاتب خيال علمي في القرن العشرين وأكثر كاتب مقروء في العالم ولد عام 1922 في ووكيغن وتوفي في لوس أنجلوس عام 2012 اشتهر بروايته: «فهرنهايت 451» التي صدرت عام 1953 وأحدثت ضجة كبرى ثم أعيد طبعها عشرات المرات لتصبح أكثر روايات الخيال العلمي رواجاً ثم حولتها هوليوود إلى فيلم سينمائي يقدم فيه المخرج الكتب كشخصيات في الفيلم والكتب كلها ممنوعة فيلجأ الناس إلى حفظها عن ظهر قلب وكل من يحفظ كتاباً يعلمه لغيره ثم نرى مشهد احتراق الكتب يتكرر عدة مرات في الفيلم، أما كتابه الآخر «التواريخ المريخية» فهو تحفة في الشعر والإنسانية يروي فيه قصة غزو الكواكب السيارة ما بين الأعوام 1999- 2026 حيث يصل مستوطنون من الأرض وتختفي الحضارة المريخية القديمة جداً مع حلول هذه الوقائع.
قدم هذا الكاتب الأسطوري نحو ثلاثين رواية وأكثر من 600 قصة ليبقى خلال ستين عاماً الأكثر قراءة.
في لقاء أجرته معه صحيفة لوفيغارو عام 2002 وأعيد نشره منذ أيام يقول: لقد امتلكت حماساً للحياة يتعذر إخماده، أكتب للاحتفاء بالحياة فما إن أنتهي من كتابة قصة أو مقالة أو رواية حتى أقول حسناً أيها الموت لقد تقدمت عليك وعن سؤاله يومذاك عن أحداث 11 أيلول يقول:
لم تكن هذه سوى واحدة وهذا الحدث التراجيدي لن يلقن قادتنا درساً فهذا التدمير يجب أن يدفع بأميركا لأن تعي أن سياساتها الخارجية جائرة ظالمة إلى أبعد الحدود، كان علينا أن ندفع بالأمم المتحدة لتوظيف مهامها جيداً في الشرق الأوسط ومنذ أن اعترفنا بإسرائيل قبل فلسطين لحق الظلم بملايين الناس، لقد فضلنا مصالحنا على الاهتمام بالآخرين وبناء على ذلك كانت كارثة 11 أيلول، لقد ضربنا الإرهاب في عقر دارنا كرد فعل على مواقفنا الظالمة التي تستخف بشعوب الشرق الأوسط وأنا ككاتب خيال علمي تصورت كثيراً خلال حياتي هذا المستقبل الحالك المملوء بالضجيج والهيجان ومع غيري من كتاب الخيال العلمي قضينا حياتنا بالتنبؤ بالمصائب والمستقبل الغامض، مع أنني لم أتصور يوماً أن تستخدم طائرة مدنية كسلاح تدمير ولا يمكن أن نحمي أنفسنا ممن يحولون الجسد وهو رمز الحياة إلى آلة موت رهيبة، حكومتنا ذهبت إلى الحرب على الإرهاب بدلاً من أن تبحث عن أسباب المشاكل الحقيقية وفي المستقبل علينا التفكير كثيراً وإلا فسنصبح جميعاً هباءً منثورا.
ومن أقواله: الرجال لا ينضجون أبداً وغرور الذكر هو مشكلة العالم، والرجال هم خليط من أضداد الأشياء من السيئ والجيد فهم أمام النساء مشكلة لا يستطعن فهمها لمزاجهم المتقلب لكن في بعض الأحيان تصبح جذابة ومثيرة لهن.
وبقي برادبيري سنوات عديدة يعارض فكرة نشر أعماله في مشروع الكتاب الإلكتروني حيث قال: أشعر بأن الكتب الإلكترونية لها رائحة الوقود المحترق ويصف شبكة الإنترنيت بأنها مربكة وهي في مكان ما في الهواء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن