ثقافة وفن

هذي حماة مدينة سـحرية وأنا امرؤ بجمالها مسحور ياليت شعري ما أقول بوصفها وحماة شعر كلها وشــعور

| المهندس علي المبيض

أكدت التنقيبات الأثرية أن سورية تعتبر من أقدم مناطق العالم، وأن الحضارات المتتالية التي قامت فيها هي حضارات مترابطة عضوياً ومتكاملة وليست إقصائية، كما برهنت هذه الحضارات أن سورية تحمل بعداً ثقافياً وعلمياً واجتماعياً وسياسياً لا يقاس بالمقاييس الاعتيادية التي تعطي دلالات معينة كالمساحة أو عدد السكان، بل إنها كانت دائماً ومنذ القدم وحتى وقتنا الراهن تمتلك عوامل قوة عديدة تمكنها من أن تلعب دوراً حاسماً في المنطقة بأسرها، إذ إن موقعها المهم والذي يعتبر صلة وصل بين القارات الثلاث كان ومازال يمنحها بعداً إستراتيجياً مهماً، وقد برزت هذه الأهمية الإستراتيجية منذ نشاط طريق الحرير التجاري والذي كان ينقل القوافل التجارية والثقافات والفنون.. وغير ذلك من الصين شرقاً مروراً بمنطقتنا التي كانت تشكل مفترق طرق باتجاه أوروبا شمالاً أو غرباً باتجاه شمال إفريقية، لذلك ازدهرت هذه المنطقة اقتصادياً وكانت مركز الإشعاع الحضاري عبر كل العصور مكنها من أن تصنع تاريخها وتسهم بإيجابية وفاعلية في صناعة تاريخ المنطقة بأسرها.

ومن هذا المنطلق فإن هذه المقالات التي نقوم بنشرها أسبوعياً هي محاولة متواضعة لتسليط الضوء على نقاط القوة في التاريخ السوري المشرق والذي يروي قصة حضارات وممالك تعاقبت على كامل الجغرافية السورية، قام بكتابة مجدها جميع السوريين وساهمت تلك الحضارات بشكل فعال في منظومة الحضارات الإنسانية العالمية، وهدفنا من ذلك التأكيد على أن السوري هو وريث تاريخ عريق وسليل ثقافة واسعة ومتنوعة يمكن أن تشكل أرضيةً مشتركةً ونقاط التقاء عديدة بين كل أطياف المجتمع السوري، كما تشكل سداً منيعاً أمام طوفان الأفكار الهدامة وتعتبر من أهم العوامل التي تحد من آثار التجزئة والتفتيت.
ونذكر السادة القراء أننا استعرضنا في المقالات السبع السابقة بعض القلاع والحصون في محافظة حماة كأحد المعالم التاريخية في المدينة، حيث تحدثنا عن قلعة حماة قلعة سلمية قلعة الربا قلعة شميميس قلعة مصياف قلعة القاهر قلعة بعرين قلعة شيزر قلعة المضيق قلعة الحوايس قلعة الرحية قلعة أبو قبيس قلعة برزية قلعة الرصافة قصر ابن وردان.
واللافت للنظر أن عدد القلاع والحصون التي تنتشر في أرجاء محافظة حماة هي كثيرة نسبياً وتعود إلى عصور تاريخية مختلفة، وهي تدل بلا شك على أهمية مدينة حماة الإستراتيجية في المنطقة وعلى مر العصور التاريخية، كما يتمثل دورها الحضاري في كثافة المواقع الأثرية الموجودة ضمن مساحة صغيرة نسبياَ فحيثما توجهت يجد المرء نفسه محاطاً ببقايا وآثار العديد من الحضارات والممالك التي قامت فيها، وكنا في المقال السابق قد تحدثنا عن قصر ابن وردان وهو القصر الذي تفوح منه رائحة العطور كلما هطلت عليه الأمطار، فإذا استأنفنا المسير بعد قصر ابن وردان لمسافة 10 كم باتجاه الشرق فإننا نكتشف موقعاً أثرياً قديماً يطلق عليه اسم اسطبل عنتر وهو بقايا حصن روماني قديم يعود تاريخ بنائه لعام 557 م، لم يتبق منه اليوم الشيء الكثير فوق الأرض وهو يقع على قمة جبل عال شمال جبل الحوايس، تأخذ الأجزاء المتبقية منه شكلاً مربعاً تقريباً أبعاده 75 م x 80 م وله أربعة أبراج موزعة على زواياه الأربع، كما يوجد برجان شيدا على جانبي المدخل الذي يقع على الجدار الجنوبي إضافة إلى برج مربع في وسط جداره الشرقي، ويوجد بالقرب منه بناء يضم قناطر وكان كنيسة شكلها مستطيل تبلغ أبعادها حوالي60 م × 16 م وهي مبنية بأحجار ضخمة، ويبعد جدارها الشرقي عن السور ثلاثة أمتار، لها مدخلان واحد من الغرب وآخر من الجنوب ويقسم الحرم المخصص للصلاة إلى ثلاثة أقسام، وهناك خزانان للمياه يقع أحدهما في الجهة الشمالية ملاصقاً للسور والآخر في الجهة الغربية، ويوجد بناء ملاصق للجدار الشمالي أرضيته مبلطة بفسيفساء بيضاء كتب على عتبة الباب الرئيسي كتابات باللغة اليونانية القديمة مؤرخة بتاريخ 557 م، ويعتقد أن تسمية الموقع بهذا الاسم هي بدوية طرأت على الموقع بعد فترة بنائه وليست أصيلة وربما تكون نتجت على الأغلب من جراء استخدامه اسطبلاً للخيول أيام فترة الوجود العثماني، أما اسم عنتر فمرد ذلك لقيمته الكبيرة حيث يرمز اسم عنتر للفروسية والقوة والمنعة، وربما يكون سبب إلصاق اسم عنتر جاء مشابهاً لسبب تسمية قصر ابن وردان الذي هو اسم لأحد شيوخ قبائل البدو الذي اتخذه نزلاً له وليس له علاقة بتاريخه أو باسم بانيه.
وإذا قطعنا مسافة 25 كم باتجاه الشمال الغربي عن مدينة حماة فإننا نصل إلى مدينة محردة وهي تطل على قلعة شيزر وتضم العديد من الآثار التي تعود إلى العصر اليوناني، منها معبد قديم له أبواب وأعمدة حجرية تحول فيما بعد إلى كنيسة ويعتقد بأن الحياة كانت موجودة فيها منذ الألف الثاني قبل الميلاد وعثر فيها أيضاً على العديد من المدافن التاريخية والتي يعود تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي، حيث تم العثور بداخل بعض تلك المدافن على عدة قوارير زجاجية كانت ترافق الجنائز وهي أحد الطقوس الجنائزية القديمة وتم العثور أيضاً على إشارة الصليب على أحد هذه القبور، كما احتوت على عدة سرج فخارية كانت توضع على مائدة في وسط المدفن وهي من التقاليد الدينية القديمة التي تتضمن إشعال الشموع ضمن السرج داخل المدافن، ونستدل من ذلك على أن هذه المنطقة كانت مأهولة بأعداد كبيرة من السكان في تلك الفترة الزمنية، وتدل أيضاً أنها كانت تمتد على رقعة جغرافية واسعة نسبياً وأن المدينة مرت بمرحلة ازدهار واستقرار في العهد البيزنطي واستمرت الحياة فيها بعد القرن الخامس الميلادي إلى أن ضربها زلزال كبير عام 1157 م والذي دمر المنطقة بالكامل بما فيها مدينة أفاميا الأثرية وقلعة شيزر ومدينة حماة، وفي القرن السادس عشر الميلادي بدأت المنطقة بالاستقرار وعادت الحياة إليها وقام أبناؤها بإعادة بناء كنيستها وتوسعتها، وفي فترة وجود العثمانيين في بلادنا تراجعت المنطقة وتدهورت ظروف الحياة المعيشة فيها ما دفع العديد من شباب محردة لمغادرتها والهجرة للغرب بحثاً عن فرص عمل مناسبة وتحسين أحوالهم المادية، فانتشروا في بقاع الأرض وخصوصاً في قارة أميركا الجنوبية، وساعدت أموال المغتربين من أبناء محردة التي أرسلوها إلى أهاليهم بتطوير المدينة في مختلف المجالات العلمية والصناعية والزراعية والتجارية.
وفي الشمال الغربي لمدينة حماة وعلى مسافة 48 كم تقع مدينة السقيلبية التي يعود تاريخها للفترة الآرامية ويعني اسمها بالآرامية المقاوم حيث كانت تشكل الخط الدفاعي الرئيسي الذي كان يصد الغارات والهجمات عن مدينة أفاميا الأثرية، دمرت السقيلبية أيضاً بسبب الزلزال الذي أصاب المنطقة عام 1157 م، وتضم مدينة السقيلبية تلاً أثرياً يعود تاريخه إلى العصر الروماني تتربع عليه قلعة السقيلبية تم العثور خلال التنقيبات الأثرية التي جرت في التل على بعض الأواني الفخارية المتعددة الأشكال، كما عثر أيضاً على معاصر زيتون يعود تاريخها للعصر الروماني ما يدل على ازدهار المنطقة في زراعة الزيتون منذ العصور القديمة.
وفي النهاية الشمالية لسهل الغاب تقع قرية قرقر أو قرقور وقد ارتبطت قرية قرقر القديمة بوجود تلّين تاريخيين في الجهة الشرقية من القرية التل الكبير201 م والتل الصغير 190 م، ولهذه القرية أهمية تاريخية على اعتبارها كانت موقعاً لمعركة قرقر أحد أهم المعارك في العصر القديم والتي جرت أحداثها في عام 853 قبل الميلاد بين الآشوريين بقيادة شلمنصر الثالث والآراميين بقيادة حدادزير الذي كان يضم جيشه 11 تحالفاً، تم العثور خلال التنقيبات الأثرية التي جرت في القرية على لقى أثرية وهياكل بشرية تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد.
وعلى بعد 12 كم من مدينة حماة من الجهة الشمالية تقع قرية حوارتة وتضم موقعاً أثرياً مهماً يضم العديد من اللوحات الفسيفسائية، كما يضم الموقع كنيستين بطراز البازيليك الأولى كنيسة فوتيوس 26 م x 15 م والثانية كنيسة ميخائيل20م x 13 م، عثر تحت الكنيسة الأولى على ثلاث سويات من ألواح الفسيفساء تعود إلى ثلاث أحقاب مختلفة وتعتبر هذه اللوحات من روائع الفن البيزنطي وتمثل مشاهد طيور وزخارف هندسية ونباتية غاية في الروعة، كما تمثل فسيفساء السوية الثانية مجموعة من الوحوش تطارد حيوانات برية، ويعود تاريخ هذه الكنيسة إلى عام 484 م حيث ذكر اسم فوتيوس رئيس أساقفة أفاميا، أما الكنيسة الثانية فتغطي أرضيتها سوية واحدة من الفسيفساء يعود تاريخها إلى 487 م وتمثل مجموعة جميلة من الزخارف مع صورة السيد المسيح وهو جالس على الكرسي.
وإذا سرنا باتجاه طريق مصياف – مشتى الحلو فإننا نصل إلى قرية مريمين حيث تم العثور خلال التنقيبات الأثرية التي جرت فيها على لوحة فسيفسائية كبيرة أبعادها نحو 5، 35 م x 4، 25 م، يعود تاريخها إلى نهاية القرن الرابع الميلادي وهي تمثل مجموعة من السيدات يعزفن على آلات موسيقية (القيثارة والأرغن والصنجات)، ووقف خلف الفرقة الموسيقية كورس جماعي للغناء على حين وقفت أمام الفرقة سيدة بدت وكأنها المايسترو الذي يقود هذه الفرقة التي تقدم برنامجاً موسيقياً أمام الجمهور، وتعتبر اللوحة الفسيفسائية تلك لوحةً فنيةً ذات موضوع متكامل وتمتاز بقوة الفكرة ودقة التشبيه ووضوح المعالم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن