ثقافة وفن

طغت السياسة على النقاء الديني وكان ذلك بداية القطيعة مع العقل … الكاتب باسل الخطيب لـ«الوطن»: لا إمكانية للنجاة من التهلكة إلا بالعودة إلى استعمال العقل

| هيثم يحيى محمد

بعد كتابه غزوة الأحزاب الثانية في عام 2015 صدر للمهندس الكاتب باسل الخطيب منذ فترة قصيرة كتاب جديد بعنوان (تغريبة العقل.. عقلية البارامسيوم) يقول فيه إن الروائح المنبعثة من خمود قوة الحياة تشبه الروائح المنبعثة من الماء الراكد وهكذا يتسم كيان الأمة بالكامل ويضيف: إنها الوهابية المقنعة.
عن كل ما أثير من موضوعات وقضايا ومصطلحات غير مألوفة في هذا الكتاب كان لـ«الوطن» الحوار التالي مع الكاتب الخطيب المحاضر في جامعة طرطوس وصاحب عشرات المقالات والدراسات والمحاضرات في موضوعات مختلفة.

عنونت كتابك الثاني الذي صدر منذ فترة قصيرة بتغريبة العقل (عقلية البارامسيوم) حبذا لو توضّح للقراء عقلية البارامسيوم؟
ذلك الكائن المتحول الذي لا يمكن تحديد شكله بالضبط، هذا الكائن على ما هو عليه من التأرجح وعدم الثبات يشبهنا نحن، نحن ورثة ذاك التراث التأسلمي ومتبعيه، حالة التأرجح تلك أنتجت الازدواجية والتردد وعدم الحسم وعشي البصيرة والكيل بألف مكيال وصولاً إلى النفاق في مقاربة أي قضية أو موضوع أو شخص.. أما لماذا استعملت تعبير (الأمة التأسلمية) ولم أقل ( الأمة الإسلامية)؟ كلمة الإسلام هي كلمة تشبه الخط المستقيم أو هي الخط المستقيم عينه لا تحمل تأويلاً أو إضافة أو تأرجحاً، أما كلمة التأسلم فتحمل في معناها كل مفاهيم التأرجح وعدم الثبات،…. على فكرة وفي السياق ذاته أنا ضد استعمال تعبير (الإسلام السياسي) والتعبير الصح هو (التأسلم السياسي)، من حيث المبدأ استعمالي لهذا التعبير هو تنزيه للإسلام كقيمة مطلقة لا يحتاج إضافة أو تعريفاً لكون الكلمة في معناها تعبر عن دين كامل هو خلاصة الفكر الإنساني في سموه ورفعته، يقال أو يستخدم أحياناً تعبير (الإسلام المتطرف) أو (الإسلام المعتدل)، لا يوجد شيء اسمه (إسلام معتدل) أو (إسلام متطرف)، الكلمة: كلمة (إسلام) كلمة قائمة بحد ذاتها لا تحتاج إلى رافعة، كلمة تعبر عن نفسها بنفسها، عندما نستخدم هذه الكلمة فهذا مرادف للحقيقة المطلقة، مرادف للاعتدال والوسطية، وفي اللغة لا يجوز تعريف المعرف… الفضيلة هي كل وسط بين رذيلتين، الإسلام هو تلك الفضيلة، هو ذاك الوسط بين رذيلتي الكفر والتكفير.

تقول إن ما ورد في كتابك ليس قرعاً لحرب التحذير لأنه لم يعد يفيدنا شيء كعرب للنجاة لأننا سائرون إلى التهلكة.. لماذا كل هذا التشاؤم والسوداوية؟
هذه ليست نظرة سوداوية أو متشائمة، أنا أصف واقع هذه الأمة، كما هو، بكل تجرد، من دون رتوش أو مساحيق تجميل، إن علاج أي مرض كان يقتضي صحة ودقة التشخيص، حتى يكون العلاج ناجعاً ومفيداً، أنا لا أقفل الباب أمام إمكانية النجاة أو القيامة، ولكن لهذه القيامة شروطها وأولها أن تعود هذه الأمة إلى عقلها، أو بالأحرى أن تعود إلى استعمال العقل والمنطق في كل ما خص أمورها، وتتحرر من انعتاقها لأفكار ذاك الموروث وعقول من عاش في تلك القرون الغابرة… الحل هو في الانعتاق من عبودية ذاك الموروث وذاك الماضي بأشخاصه وأفكاره.

تقول إن تفجير الإرهابي لنفسه طوعاً ليس بسبب إقناعه بذلك من مشغله إنما هو نتاج تراث تأسلمي.. كيف؟
إن من يدير هؤلاء الإرهابيين ويرسلهم لتنفيذ عملياتهم كان قد سيطر واستملك عقولهم، أو بالأحرى أزاح عقولهم جانباً وألقى عليها حجباً كثيفة، وحصل هذا عندما تم تصوير الجنة في ذاك الموروث التأسلمي، إنها عبارة عن الجواري والغلمان وإن مكافأة ذاك الإرهابي على فعلته ستكون تلك الجنة ومقامه فيها سيكون أرفع وأعظم كلما قتل أكثر… كان من نتاج ذاك الموروث وذاك التعريف الوضعي للجنة أن الأغلبية أضحوا عبيداً لصنم (الغريزة المقدسة).

ولماذا تنفي أي علاقة بين العقل وبين ذاك التراث (التأسلمي)؟
على مدى تاريخنا الطويل عظم ذاك الموروث التأسلمي نهج العلوم الشرعية الفقهية على حساب العلوم العقلية والمنطقية، كانت نظرة الفكر التأسلمي للعقل على أنه (كيان نسبي) ومن ثم يجب أن يكون تابعاً للنص الذي هو (مقدس مطلق)، كانت النظرة للعقل أنه يجب أن يكون محدوداً بحدود الشرع وتكمن مهمته فقط في تطبيق النصوص من دون نقاش أو تمحيص أو تدقيق، كل ذلك جعل العقل عندنا محدود القيمة والفاعلية والإنتاجية، عندما كُبل بالحدود الشرعية التي كانت قاسية لدرجة أن تلك الحدود قتلت أو نفت أو اضطهدت كل من فكر أن يستعمل عقله خارج إطارها، لذا انطوى العقل لدينا على نفسه ولم يغامر بالبحث عن المعرفة خارج إطار الفكر الديني. راكمنا الماضي بكل ما فيه في عقولنا حتى استحال صنماً، عظم ذاك الموروث النقل وقدمه على العقل في كل الأمور.

ترى أن ثقافة النفاق انتشرت في مجتمعنا بشكل كبير وخطير، حبذا لو توضح لنا ذلك؟
ذاك الموروث التأسلمي أنتج تلك العقلية المنقسمة على نفسها لأنها عاجزة بالمطلق من جهة، ومن جهة أخرى تراها تداري ذاك العجز بالتكبر الأجوف وادعاء إدراكها لعلوم الأولين والآخرين ما شكل بيئة حاضنة مثالية لإنتاج (ثقافة النفاق)، ذاك النفاق الذي نتلمسه في كل خطواتنا وكلامنا ومناحي حياتنا، ليصير أداؤنا للواجب الديني هو شكل من أشكال البروز الاجتماعي، أو أنه خوف من عقاب أو طمع في ثواب، وهذا انسحب على كل واجب آخر في أي مجال، حيث أصبحت تأدية الواجبات خاضعة لمنظومة أخلاقية متحركة، هي بدورها خاضعة لثقافة دينية هلامية ومعقدة، وليس لأن ذاك الواجب هو (واجب)، أو لأن القانون يفرض ذلك، فكان أن ولد ذلك انفصاماً في الشخصية كان يدارى بالنفاق، خذوا على سبيل المثال تلك الأمثال الشعبية التي نعتبرها (خلاصة الحكمة) والتي تشكل وعينا الجمعي وتعتبر منهجاً أو طريقة للحياة، يقول المثل «الأرض الواطئة تشرب ماءها وماء الأراضي التي حولها» ماذا يعلمنا هذا المثل؟ ألا يعلمنا التذلل والخضوع للحصول على المراد؟ وغيرها كثير.

أنت تخرج داعش من دائرة النفاق، هل توضح لنا ذلك؟
دعونا نسأل السؤال الخطير التالي: لماذا لا تجرؤ المؤسسات التأسلمية والتي تصنف أنها معتدلة على إدانة الكثير من أفعال داعش إدانة صريحة وليست إدانة لفظية إعلامية استعراضية فحسب؟، وأقصد بالإدانة الصريحة إدانة تفند أفعالها تفنيداً منطقياً تفصيلياً شرعياً يخرج هذه الأفعال من دائرة الإسلام المحمدي ومن ثم يخرج داعش نفسها من تلك الدائرة. إن داعش وأخواتها يطبقون بالضبط ما تتضمنه تلك المقررات التي تدرسها تلك المؤسسات (المعتدلة) لطلابها، داعش وإخوتها يطبقون تلك النصوص حرفياً، النصوص والمقررات إياها التي تنضح تطرفاً وتكفيراً والتي يتشربها طلبة تلك المؤسسات والتي تطبقها داعش كما هي. إن جل ما عرفته هذه الأمة التأسلمية طوال تلك القرون الماضية من آراء فقهية أو شرعية كان ظاهراً في قضايا مصيرية وخطيرة وكان ذا خلفية سياسية بحتة ولا علاقة له قولاً واحداً بالشريعة أو بالدين الإسلامي المحمدي إياه، وصولاً إلى (ثقافة التكفير) التي لم تكن أبداً ذات أصل ديني إنما هي ذات منشأ سياسي لبست لبوس الدين لكونه أقصر الطرق وأنجعها لتحقيق الغايات.
لقد حصل خلط كبير بين مفهومي إسلام (النص) وإسلام (التاريخ) حتى أضحى إسلام (التاريخ) متقدماً في كل شيء بما فيه القدسية على إسلام (النص)، وحتى تكتمل حلقة النفاق عند ذاك التيار التأسلمي يلاحظ أن إسلام (النص) عند هؤلاء هو إسلام (الضرورة)، أي إنه يستعمل وكأنه (حبة الدواء) عند الحاجة فقط.
مرة أخرى لا حل أمامنا إلا أن ننزع صفة المقدس عن ذاك الموروث وأن نواجهه، لا حل أمامنا إلا بفصل ما هو ديني عن التاريخي، الإسلام ما كان يوماً دولة، والرسول ما كان يوماً حاكماً، الرسول كان معلماً، والدين ليس علماً حتى يحتاج بحثه إلى مختصين، الإسلام هو منظومة أخلاقية رفيعة وكل ماعدا ذلك لا علاقة له بدين محمد عليه الصلاة والسلام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن