ثقافة وفن

«أنصتوا…» د. العطار ترصد حركة التاريخ والحضارة في سورية … سجل يدون مراحل التنقيب والوثائق لإظهار الهوية السورية ومشاركتها الحضارية

إسماعيل مروة :

سورية الوجه الحضاري والآثاري الموثق، مرحلة مهمة من الحديث العلمي الموثق عن سورية وتاريخها، بعد عقود من الأحاديث الإنشائية، وبعد التغني بلا أدلة، كنا نتغنى بسورية وتاريخها من دون دليل، ونبحث في الكتب والمجلات عن عبارة قالها مستشرق هنا أو هناك، أو قالها رحالة زار سورية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، نبحث عن هذه العبارة لنرددها تدليلاً على مكانة سورية الحضارية! وإلى اليوم يدفعنا ضعفنا وجهلنا إلى قول المستشرق: «كل إنسان له وطنان، بلده وسورية» وماذا يعني هذا القول؟ لا شيء إن لم نعرف لم يقول هذا المستشرق أو ذاك ما قاله.. وبقيت سورية كنزاً من الحضارة المدفونة، لا نعرف منها إلا ما ظهر حتى سبعينيات القرن العشرين، ومن هنا تأتي أهمية كتاب الأستاذة الدكتورة نجاح العطار «أنصتوا…. موكب الحضارات يمر»، وأهمية العرفان بالجميل والفضل للرئيس الراحل حافظ الأسد في فتح باب الكشف والاكتشاف على مصراعيه، فقد آلت د. العطار على نفسها أن تسجل مراحل الاكتشافات، وأن تعيد الفضل إلى أهله، وقد تنكر كثيرون للمرحلة والكشوف وأصحاب المبادرة!

على مدارات الوطن

تأتي الأهمية الإضافية لهذا الكتاب من كونه بحث في مدارات الوطن من جميع محافظاته وآثاره وأوابده، فهو يوثق لرحلات الكشف والاكتشاف والمعرفة الحقيقية للذات في كل بقعة من بقاع سورية، وهذا يعزز أنه ما من مدينة مميزة بتاريخها وأوابدها، فمن الشمال كان الهيكل العظمي للإنسان، ومن دمشق الحضارة، ومن حلب، ومن الرقة، ومن كل زاوية في البحر وأرواد إلى أوغاريت والمعرة، والجزيرة وإبلا… ومن اكتشاف الحياة والحضارة إلى المهن وعراقتها، والصناعات والحرير والنحت والزجاج، وصولاً إلى الاعتراف ببراعة أنامل المبدعين في صناعة تاريخ سورية ليكون العنوان الأبرز أن سورية في حقيقتها «متحف كبير شامخ» وهذا الكتاب يستنتج ولا يقرر بأن سورية كلها متحف متكامل، وما من بقعة وحدها، والإنسان السوري في كل مكان مبدع حقيقي صنع تاريخه وحضارته، وما من مكان تميز عن الآخر… وأن سورية متحف كبير لكل العصور وليس لعصر واحد، فمن عصور ما قبل التاريخ إلى العصور الإسلامية وما تلاها، فهي حاضنة لحضارة كل من مرّوا فيها، فأغنتهم وطوعتهم وطورتهم، وأودعوا فيها ذواتهم.
«دمشق الرائعة هذه، مدينة الطريق المستقيم، قد اعتبرت، في نظر المؤرخين، جدة المدن في العالم كله، وأقدم مدينة تحدثت عنها الكتب المقدسة، وكذلك أقدم النصوص التاريخية، المصرية والآشورية والآرامية والإغريقية واللاتينية، ومختلف اللغات الحديثة من دون أن يتوصل أي مؤرخ إلى مقاربة تاريخها القديم المجهول، ومن دون أن يجرؤ أيضاً على تحديده، خشية الوقوع في خطأ فاحش.
يكفي إذاً أن نقول إن بلداً كسورية، له عاصمة كدمشق، هو بلد الحضارات الأمعن في القدم، وأرضها هي الأغنى في هذه الحضارات التي ما تزال تفاجئنا كل يوم بجديد، في مواسم التنقيب المتتابعة التي تغني التراث الإنساني، وتيسر سبل الكشف العلمي الذي يوفر عطاءات جديدة، تنير ظلمة الماضي، وتجلو بعض معالم التاريخ، في سحيق أبعاده».
إذا، نحن أمام حقائق تجعل المؤرخين مبتعدين عن التحديد غير الدقيق، وأمام بلد ورد في مختلف الكتب واللغات والحضارات، وهذا يدل على التبادل الحضاري الغني، وعلى كون سورية ملتقى للحضارات منذ القدم وإلى اليوم، وتشير الدكتورة العطار إلى الكشف العلمي وسبل الكشف، وهي المسيرة التي بدأت أنشطتها المكثفة المتتابعة في سبعينيات القرن العشرين، وهذا ما تؤكده بوعي المثقف المسؤول، فهي لا تريد أن تتحدث عن سورية حديث المحب مع وجود الحب، ولا أن تهضم حق الوطن، لذلك كان اعتماد العلم والكشف والاكتشاف «إننا لسنا في سلك التواضع، ولكننا، أيضاً، لن نكون في مركب الغرور، وأقلامنا، في زهوها والاعتداد، منذ مدة لسورة الحق، على اسم الله والوطن.. ثم إن التوثيق له ركنان: الأول يمليه حضورنا في الزمن المناسب، وفي الوقت المناسب، والثاني امتلاكنا المادة الوثائقية، وهي موجودة عندنا، موفورة في خزائننا، تنتظر تظهيرها، إخراجها، عرضها على الملأ، بغية الاستفادة منها».

الآثار والآثاريون
الغاية إذاً تظهير هذه المواد وعرضها على الملأ، واكتشاف الحقيقي المخبوء، ومن هنا اعتمدت د. العطار على الآثار والآثاريين، وأعطت المديرية العامة للآثار والمتاحف شخصيتها المستقلة، والاهتمام المناسب لتقوم بما يترتب عليها تجاه الآثار وفي حديثها في الرقة العظمة والتاريخ تقول عن هذه المهمة «نحن في وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار والمتاحف، نبذل جهداً كبيراً، ونريده أكبر، لا للحفر والتنقيب عن آثار الأسلاف والأجداد فقط، بل لترميمها والمحافظة عليها أيضاً، فالعمل الآثاري ليس احتفاء بكشف بقدر ما هو المحافظة والترميم أيضاً لتستمر رحلة الأجيال في مهد الحضارة والعظمة، ولأرواد تستنطق التاريخ «الأبد ملكنا، وبعل» و«يم» سيطويهما التاريخ، وهذه الجزيرة التي هي قطعة من أرضنا، وصخرة من حجرنا، وقلعة من نحتنا، تعود إلينا، وتبقى لدينا، وتصبح رمزاً من رموز نضالنا، ونقيم فيها متحفاً ينطق بتاريخنا، وبشاعرية وإحساس بالانتماء إلى الأرض والجذور تقول «إن طائر الفينيق الأسطوري هذا، قد رفّ بجناحيه الأسطوريين بين شهباء وروما، فكان ابناً للأولى، وإمبراطوراً للثانية، والمدى بين المدينتين، في ذلك الزمن البعيد، مدى للمغامرة، بل ثورة للمغامرة» ولا تخفى الإلماحة الذكية إلى الإنسان السوري ودوره ومغامرته.. ولأن الحقبة الممتدة من سبعينيات القرن العشرين كانت حقبة الكشوف والتنقيب، فإن الأمر لم يهدأ داخل سورية وخارجها، والتعاون كان في أوجه بين الآثاريين السوريين، وعلماء الآثار والتنقيب في العالم، بل صارت سورية وآثارها موضوع مؤتمرات وندوات داخل سورية وخارجها، وقد حمل الكتاب وثائق عن مشاركات د. العطار شخصياً في الحديث عن سورية وأوابدها وإنسانها، لتقدم رسالة الإنسان السوري، والقارئ الكريم يعلم أن تلك المهام كانت شاقة كذلك في تلك الحقبة حيث فرض على سورية الحصار والتضييق الخانق، لكن إرادة الإنسان كسرت كل شيء، وها هي المحاضرات والندوات في العالم أجمع.

تعريف بسورية وإنسانها
في روما كان التعريف بسورية وتاريخها وآلاف الأعوام من الحضارة، ولأهمية التاريخ وبراعة المتحدث والثقة به، كان الحديث بحضور النخبة السياسية، وكان المعرض السوري في روما ليس بغاية العرض، وإنما للتأكيد على المشترك مع العالم الآخر» إن قصة الخليقة واحدة، وقد صاغت، بطريقتها الخاصة، حكايتها، ونسبتنا جميعاً إلى آدم، جدنا الأعلى أي إلى بداية وجودنا.. وفي العام نفسه تحتضن باريس مكتشفات سورية لتقول المجلات المتخصصة آنذاك في باريس.. إن سورية، كما هو معروف، تقوم على بحر من الحضارات القديمة والوسيطة والحديثة، إن سورية تبدو لفردوس أثري، فمنذ أقدم العصور وجد الإنسان في سورية البيئة الملائمة لحياته في كهوف جبال القلمون وتدمر، ووادي اللطامنة، وحوض الفرات، وإلى اليابان وإسبانيا وبرلين ولندن رحلات عديدة ومعارض ومشاركات تعرضها د. العطار، وأزعم أن في الكتاب من الوثائق ما يبعده عن مجرد الجمع، ليضعه في خانة الوثائق، وأسأل هل من عبث أن يرد ذكر الفرات والرقة واللطامنة وغيرها في هذا السرد الوثائقي القيم، وأن تصل هذه الأسماء إلى السوري العادي خلال الحرب التي تعصف بسورية؟ وهل نتخيل مقدار الكنوز في المناطق التي تتردد أسماؤها في الأخبار اليوم، والتي تعرضت للتدمير؟ وهل يتخيل معي القارئ مقدار الجهود التي بذلت للتنقيب والمحاضرة والاستضافة والتكريم للأصدقاء المحبين بأوسمة من أعلى مستوى؟
(أنصتوا.. موكب الحضارات يمر) سجل لقطار الحضارات من القديمة إلى الوسيطة إلى الحديثة كما كانت في سورية، وهذا السجل يحفظ من الضياع النهضة الحضارية والآثارية السورية، ويقدمها إلى ابن سورية ليعود إلى أرضه وجذوره وحضارته نابذاً كل ما يعوق تقدمه الحضاري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن