قضايا وآراء

وحده صالح في شعاب مكة

| أحمد ضيف الله

بلغة عربية فصحى وفصيحة، خالية من أي خطأ لفظي أو لغوي، خاطب الرئيس العراقي برهم صالح ملوكاً ورؤساء وأمراء، معظمهم لا يتقنون لفظ لغة قرآنهم الكريم، وأشك في أنهم يستوعبون أو يفهمون لغة الأمة العربية، قائلاً لهم في قمتهم العربية الطارئة بمكة في الـ30 من أيار الماضي، وبكل صراحة: إن «جمهوريةَ إيران الإسلامية هي دولةٌ مسلمةٌ جارة للعراق والعرب، ويقيناً لا نتمنى أن يتعرض أمنُها إلى الاستهداف، وتربطنا وإياها 1400 كم من الحدود، ووشائجُ وعلاقاتٌ متعددة، ويقيناً أن أمنَ واستقرارَ دولةٍ إسلامية جارة هو من متبنياتِ ومصلحة الدول العربية والإسلامية»، و«إننا نرى أن أي تصادمٍ في منطقتِنا سيعرض أمن العراق للتهديد، ومن هذا المنطلق، منطلقِ مصلحتنا العراقية، ومنطلقِ حرصنا على أمنِ المنطقة، ومنطلق حرصنا على أمن أشقائنا والأمن القومي العربي، فالعراق سيعمل على بذل قُصارى جهدهِ لفتحِ بابِ الحوارِ البنّاء، ويشدّدُ على ضرورة تبنّي الحوار المباشر، ونبذِ العنفِ والحرب، سبيلاً لحلِّ الأزمة المُحْدِقَة بنا».
وعلى الرغم من أنه قال: إن «أمنَ المملكة العربية السعودية الشقيقة هو أمنُ العراق، وأمنُ الإمارات، وأمن دول الخليج هو أمنُنا، ونحن في العراق حريصون على أمن المملكة ودول الخليج، وأي استهداف لأمنها هو استهداف لأمننا، بل استهداف لأمن الدول العربية والإسلامية جميعاً، ونستنكر أي عمل عدائي موجه إلى أشقائنا، لأن الإخلال بالأمن في المنطقة هو إخلال بأمن العراق واستقراره أيضاً».
خرج بيان القمة العربية الطارئة المعد سلفاً بلغة تصعيدية مأزوماً، وقد صيغ من دون الرجوع إلى الدول المشاركة بالقمة، عاكساً حجم الاستخفاف والهيمنة السعودية والسائرين في ركابها على القرار العربي، متناسياً أعداء الأمة العربية الحقيقيين الذين يحتلون أرضها ويدنسون مقدساتها، متطرقاً بخجل للقضية الفلسطينية بـ24 كلمة من أصل 588 عدد كلمات البيان! معبراً عن مدى هشاشة الموقف العربي، ومدى الاستسلام والركوع أمام الكيان الصهيوني، محولاً أنظار العرب والمسلمين عن صراعهم المقدس ضد هذا الكيان الغاصب إلى مواجهة مفتعلة مع ما اسموه بـ«التهديدات الإيرانية».
لقد اكتفى بيان القمة العربية الطارئة بالتركيز على حق السعودية بالدفاع عن أراضيها في محاولة لشرعنة تدخلها العسكري في اليمن، ولطمس الجرائم التي ترتكبها قواتها والقوات العسكرية الإماراتية بحق الشعب اليمني يومياً، وإعطاء التصعيد مع إيران بعداً إقليمياً يفضي إلى اعتبار العدوان على اليمن حرباً مبررة أمام الرأي العام الدولي، متجاهلاً المواقف الإيرانية الداعمة للقضية الفلسطينية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وهذا حال مواقف آل سعود وذيولهم العربية منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ضد كل من يقف مع قضية العرب المركزية فلسطين، كالاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية في ذلك الوقت، على أنها دول تهدد أمن المنطقة واستقرارها بنشر «الشيوعية» والإلحاد في الدول المسلمة.
السعودية الصامتة التي لم ترد مرة واحدة على الإهانات المتكررة التي يوجّهها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لمليكها سلمان بن عبد العزيز، الذي يعتبر مملكته «بقرة حلوب»، حين يجف حليبها «سيتم ذبحها»، كان الحشد في قممها، الخليجية والعربية والإسلامية، بمكة بسبب الخوف والرعب الذي أصاب آل سعود وأولاد زايد على عوائد بيع نفطهم بعد الهجمات التي استهدفت ناقلات نفط قبالة السواحل الإماراتية، ومحطتين لضخ النفط في السعودية، كما كانت رداً غير مباشر على المبادرة الإيرانية التي دعت إلى حوار خليجي إيراني، وتوقيع معاهدة «عدم اعتداء»، حيث كشف السفير العراقي في طهران سعد عبد الوهاب جواد في الـ1 من حزيران الحالي، عن وجود طلب رسمي من السلطات الإيرانية ممثلة بوزير خارجيتها محمد جواد ظريف، مُقدم للعراق، للعمل كوسيط لتطبيع العلاقات بين إيران ودول الخليج، وأن «المسؤولين العراقيين رحبوا بالطلب الإيراني، وأكدوا عزمهم على إيصاله إلى الطرف الخليجي»، وبأن «أولى الخطوات لهذه الوساطة قد تمت بالفعل، حيث أوصل الرئيس برهم صالح رسالة إيران إلى السعودية».
آل سعود أرادوا حشداً عربياً يتبنى مواقفهم، والعراق الحر رفض ذلك، لاعتزازه باستقلاله وتاريخه، رافضاً السلوك المتعالي الذي مورس على الحاضرين بتأييد بيان أعد مسبقاً، فاضحاً «شكلية» الاجتماعات التي سبقت ورافقت القمة، رغم قيام وزراء خارجية دول عربية عدة، إضافة إلى رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري برجاء وزير الخارجية العراقي محمد علي الحكيم، من أجل تمرير البيان وعدم الاعتراض عليه، إلا أن العراق ظل ثابتاً على موقفه، مؤكداً على أنه لم تتم مشاورة العراق بفحوى البيان مسبقاً، وبأن السعودية كان يفترض أن تسلم البيان قبل وقت لدراسته وإبداء الملاحظات عليه.
الموقف العراقي الصارم والحازم في القمة العربية الطارئة، ألزم الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط وهو يتلو بيان القمة العربية الطارئة على القول: إن «العراق يعارض البيان الختامي الصادر عن القمة العربية الطارئة في مكة المكرمة»، وأن البيان العراقي بهذا الصدد ورد فيه: «على حين أن العراق يعيد التأكيد على استنكاره لأي عمل من شأنه استهداف أمن المملكة وأمن أشقائنا في الخليج، وجب التوضيح أننا لم نشارك في صياغة البيان الختامي، وأن العراق يسجل اعتراضه على البيان الختامي في صياغته الحالية».
آل سعود المتخبطون في قراراتهم عبروا عن انزعاجهم من الموقف العراقي، بمراهقة سياسية فجة، من خلال إعادة تسليط ألسنة وسائلها الإعلامية، وأبواق عربية مدفوعة الأجر مسبقاً، للتشكيك بعروبة العراق، وبالعزف مجدداً على أوتار الطائفية باختلاق وقائع لم تحصل أبداً في ناحية أبي صيدا بمحافظة ديالى، وفي قضاء الطارمية شمال بغداد، وباتهام قوات الحشد الشعبي بحرق المحاصيل الزراعية في المحافظات الغربية لإفقار أهل السنّة!
ووسط ذلك كله، أعاد وزير الخارجيَّة محمد علي الحكيم في تصريح له في الـ31 من أيار الماضي التأكيد على أن «موقف العراق واضح، وصريح من الأزمة الحاليّة بين الولايات المتحدة الأميركيّة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو التهدئة، ومنع نُشُوب حرب في منطقتنا. ويتطابق هذا الموقف مع التصريحات الأخيرة للرئيس الأميركيّ دونالد ترامب حول التهدئة في المنطقة، وعدم النية في شن أي حرب». كما أكدت رئاسة جمهورية العراق في بيان لها في الـ1 من حزيران الجاري، أن «أيَّ تصادمٍ في منطقتِنا سيعرض أمن العراق للتهديد، ومن هذا المنطلق، منطلقِ مصلحتنا العراقية، ومنطلقِ حرصنا على أمنِ المنطقة، ومنطلق حرصنا على أمن أشقائنا والأمن القومي العربي، فالعراق سيعمل على بذل قُصارى جهدهِ لفتحِ بابِ الحوارِ البنّاء، ويشدّدُ على ضرورة تبنّي الحوار المباشر، ونبذِ العنفِ والحرب». كذلك أكد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي خلال مؤتمر صحفي في الـ2 من حزيران الجاري أن «أداء الوفد العراقي في قمة مكة عكس موقف العراق من أزمة المنطقة».
إن الخطر على الأمن القومي العربي الذي لا يفهمه آل السعود والتوابع الخليجية من الإماراتيين والبحرانيين، يعني أن بلدانهم التي فيها العديد من القواعد الأميركية ستكون ساحة حرب رئيسة، وأنها ستحترق أولاً قبل أي ساحة أخرى، ما لم يتوقفوا عن الدعوة والتحريض لإشعال الحرب مع إيران. وكما يبدو أن هؤلاء لم يستوعبوا بعد أن العراق المثخن بجراح مؤامراتهم قادر على تجاوز أوجاعه من أجل الأمن القومي العربي، متجاهلاً عمالتهم في تحريض صدام حسين على شن حرب مدمرة على إيران لثماني سنوات وتمويلها، مدمرين بذلك العراق والمنطقة، والمساهمة بفعالية في حصار الشعب العراقي وتجويعه، وفي قتل الآلاف من العراقيين الأبرياء عبر الموجات الوهابية التي سلطوها عليه.
العراق سيد نفسه ولا يمكن أن يكون تابعاً أو موجهاً أو طرفاً في محور تصادم، كما لا يمكنه أن يكون متفرجاً عندما يتعرض أمنه للخطر ومصالح شعبه للضرر بسبب حماقة خانعين أذلاء، ومن يظن غير ذلك جاهل أحمق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن