ثقافة وفن

من شواهد الحضارة العربية الإسلامية … المدرسة المستنصرية.. التاريخ يقيم في أروقتها!

| د. رحيم هادي الشمخي

بين نهر دجلة والمدرسة المستنصرية علاقة إرواء عمرها مئات السنين، فعلى ضفة دجلة وسط بغداد أنشئت أول مدرسة بإطار أكاديمي في السنة الهجرية (631) العام 1233 ميلادية، أي قبل 767 عاماً. كان نهر دجلة يروي الحقول والبساتين بمائه العذب، فيطلع الزرع والثمر والنخل الممشوق القوام خيراً عميماً يلقي بظلاله على أرض السواد، أما المستنصرية وغيرها من ينابيع الفكر والثقافة والدين، فإنها تروي حقول العلم والمعرفة والإيمان فتتناسل أفواج العلماء والفقهاء والأدباء.
المدرسة المستنصرية التي أنشئت في بغداد كانت إحدى المدارس العراقية وثمرة من عطايا الفكر الإسلامي العظيم الذي أضاء بنوره الدنيا. إن هذا الصرح الشامخ حتى الآن على ضفة نهر دجلة شاهدُ على حيوية الحضارة الإسلامية. تعالوا معي في جولة مشاهدة واستذكار بأروقة المدرسة المستنصرية لنطالع تاريخها وفنون عمارتها وثقافة الأجداد.

المستنصرية والمدارس القديمة
مع إشراقات نور العروبة والإسلام والمعرفة التي استحدثها في العراق كانت المساجد والجوامع هي مراكز تعليم القرآن وتدريس السنة النبوية الشريفة وغيرها من المعارف التي تتصل بالفكر العربي الإسلامي، وفي منتصف القرن الخامس الهجري ومع تنامي المنظومة المعرفية للفكر العربي الإسلامي بسبب التطورات الكبيرة التي شهدتها آفاق الحياة الفكرية والفقهية والفلسفية والأدبية واستكمالاً للتطور العام في البنية الثقافية والمعرفية ولأجل إعطائها طابعاً منهجياً ولدت الضرورة لانبثاق مدارس تعتمد المنهج في التدريس، فنشأت في بغداد وبقية مدن العراق العديد من المدارس، ولأهمية المدرسة آنذاك فإنها عادة ما ترتبط بالخليفة الحاكم وتعتبر أحد إنجازاته المهمة، وبين العام الهجري 459 والعام 653 أنشئت في بغداد وحدها 35 مدرسة منها مدرسة مشهد أبي حنيفة، والمدرسة النظامية، اللتان أنشئتا في العام 459 هجرية ومدرسة عبد القادر الجيلي العام 513 هجرية والمدرسة الموفقية 522 هجرية والمدرسة المستنصرية التي نحن الآن في ضيافتها حيث يغمرنا عبق الماضي ودهشة الأفكار.

المستنصرية أول نظام للجامعة
المدرسة المستنصرية من الأبنية العباسية المشهورة وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها الخليفة العباسي المستنصر بالله ولد سنة 588 هجرية وبويع للخلافة سنة 623 هجرية ودامت خلافته حتى وفاته سنة 640 هجرية، وبعد مرحلة إنشاء استغرقت أكثر من خمس سنوات، أنفقت فيها أموال كثيرة، تأسست سنة 631 هجرية، وخلافاً للمدارس التي سبقتها والتي كانت تختص بتدريس أحد المذاهب الإسلامية فقد كانت المدرسة المستنصرية عبارة عن جامعة عربية إسلامية كبرى تدرس فيها علوم القرآن الكريم والفقه والحديث واللغة العربية والطب والرياضيات، وتعتبر أول مدرسة عرفتها الدولة الإسلامية خصصت لتدريس فقه المذاهب.
وضع الخليفة المستنصر بالله نظاماً دقيقاً لمدرسته، حيث تم تحديد عدد المدرسين والطلاب وقراء القرآن الكريم والحديث النبوي وعين لها ناظراً ومشرفاً وخازناً للكتب ومناولاً وكاتباً إلى جانب بقية العاملين الذين يقومون بالخدمة كما تم تحديد مرتبات ومخصصات هيئة التدريس والطلاب والعاملين فيها وقد أوردت المراجع العربية ذلك بالتفصيل، على أنه يمكن تلخيص ذلك على النحو التالي:
*يكون عدد الفقهاء (طلاب الفقه) 248 متفقهاً من كل مذهب 62 فقيهاً لهم المشاهرة- الراتب الشهري والجراية الدائرة واللحم والمطبخ الدائر والحلوى والفواكه والفرش والصابون والمسرحية وإبريق النحاس مع راتب شهري قدره ديناران يضاعف في شهر رمضان.
عين لكل مذهب مدرس وأربعة معيدين ومرتب ينظم أمور الطلاب ويسهر على راحتهم وطعامهم.
يكون في دار القرآن ثلاثون صبياً أيتاماً لكل منهم الخبز والطبيخ مع راتب شهري.
يعين في دار القرآن شيخ مقرئ صالح لتلقين القرآن الكريم، له في كل يوم الخبز والطبيخ مع راتب شهري قدره ثلاثة دنانير.
*يكون في دار الحديث شيخ عالي الإسناد يشتغل بعلم الحديث، له في كل يوم الخبز واللحم مع راتب شهري ويساعده قارئان للحديث مشمولان بذات الرعاية.
يعين في المدرسة طبيب حاذق مسلم له في كل يوم الخبز واللحم مع راتب شهري ويكون مع الطبيب عشرة أشخاص من المسلمين يشتغلون عليه بعلم الطب لهم الجرايات مثل طلاب الحديث.
اشترط الخليفة أن يكون في هذه المدرسة من يشتغل بعلم الفرائض والحساب، وقد جعل الخليفة للمدرسة أوقافاً كثيرة وقيل عن تلك الأوقاف إنها بلغت ما قيمته ألف ألف دينار، وإن وارداتها في العام ما يزيد على سبعين ألف مثقال ذهب.

المدرسة.. فنون البناء الإسلامي
أراد الخليفة المستنصر بالله كما يظهر من تصميم المدرسة أن تكون متميزة عن بقية المدارس التي أنشئت قبلها ليس فقط في شروطها ودراستها وإنما في بنائها واتساعها وشكلها ومظهرها أيضاً وهذا ما جعل كثيراً من المؤرخين لا يخفون إعجابهم ببنائها.
وفي نظرة متأملة على تخطيط المدرسة المستنصرية تجد أن البناية الحالية تحتل مساحة من الأرض مستطيلة الشكل طولها من الخارج 105 أمتار وعرضها من الجهة الشمالية الغربية يبلغ 44.20 م وتتسع في الجهة الجنوبية الشرقية فيصبح عرضها 49 متراً وتكون مساحتها الكلية زهاء 4836 متراً مربعاً.
يتوسط البناية ساحة مكشوفة (الصحن) وهي ذات شكل مستطيل بطول 62.40 متراً وعرض 27.40 متراً فتكون مساحتها الكلية 1710 أمتار، يلي الصحن من حيث الاتساع بيت الصلاة (مسجد المدرسة) ويجلب نظرك بعد ذلك القاعات الكبيرة وعددها سبع قاعات معظمها ذات شكل مستطيل ويتقدمها رواق شاهق الارتفاع، وتقابل هذه القاعات قاعتان أصغر منهما في الحجم إضافة إلى أربع حجرات كبيرة وهذه القاعات والحجرات ترتبط بممرات تؤدي إلى الصحن الكبير.
أما الأواوين الموجودة في هذه المدرسة فهي ثلاثة، يقع اثنان منها في داخل البناية ويطلان على الصحن وهما متشابهان ومتساويان في المساحة وارتفاعهما يبلغ نحو تسعة أمتار والإيوان الثالث يقع خارج البناية.
وتحتوي المدرسة على حجرات وغرف صغيرة كثيرة، أبوابها مطلة على الساحة الوسطية (الصحن) وهي موزعة على أربع مجموعات كل مجموعة في ركن من أركان المدرسة، وهذه الحجرات والغرف تتوزع في طابقين ويتم الصعود إليها عن طريق الأدراج النافذة من الصحن ويبلغ عدد حجرات الطابق 40 حجرة وفي الطابق الثاني 36 غرفة.
بنيت المستنصرية بآجر أصفر اللون جيد الصناعة متنوع الأشكال والأحجام، ومما تميزت به هذه البناية هو عدم تغطية سطوح الجدران بطبقة من الجص أو أي طلاء آخر، إذ جرى تزيينها بزخارف آجرية تعتبر من المظاهر الفنية لذلك العصر، والملاحظ أن الجدران الخارجية ضخمة ومرتفعة ومزينة بالزخارف في بعض أجزائها وخاصة القسم العلوي منها الذي يمتد عليه شريط الكتابات التذكارية، ويمكن القول إن ضخامة الجدران وعدم فتح نوافذ فيها ما عدا الجدار المطل على نهر دجلة إنما قصد به منع وصول الضوضاء الخارجية إلى داخل المدرسة لضمان أكبر قسط من الراحة والسكون والهدوء للمقيمين فيها.

الزخارف وفن الكتابة
تزخر بناية المدرسة المستنصرية بزخارف متنوعة تبعث على الإعجاب وتدل على ذوق فني رفيع كما تشير إلى مدى التقدم والتطور الذي حدث على الزخارف في تلك الفترة التاريخية سواء كانت في صناعتها أو في الأشكال الزخرفية نفسها.
إن هذه الزخارف جميعها مصنوعة من قطع الآجر (الطابوق) وهي المادة المستعملة في البناء، وقد أدرك المعمار والفنان البغدادي خصائص هذه المادة فاستطاع الاستفادة من ذلك وتمكن من عمل أشكال متنوعة سواء من اختلاف أوضاع قطع الآجر نفسها، أو نحتها وتقطيعها إلى أشكال متنوعة وبأحجام متباينة وفق خطة هندسية محكمة الصناعة تؤلف في مجموعها الشكل الزخرفي المطلوب، إضافة إلى حفر الزخارف على الآجر فيؤلف الاختلاف بين مستوياتها تبايناً بين الضوء والظل يحقق وضوحاً وتجسيماً للعناصر الزخرفية المزينة بالأشكال النباتية التي ملئت بها بواطن النجوم والمضلعات الهندسية، كما تزدان بناية المدرسة بكتابات على شكل أشرطة تزين واجهة مدخلها وأعلى الجدران الخارجية، وهي إضافة إلى كونها وسيلة إعلامية للتعريف بالبناية ومؤسسها وتاريخها، فإنها أيضاً تشترك مع العناصر الزخرفية في تزيين الجدران، ونوع الخط المستعمل في تلك الكتابات هو خط (الثلث) وهو من أنواع الخط العربي وقد رسمت الكتابة على الآجر وحفرت الحروف بحيث تكون بارزة على سطح القطع الآجرية ثم زخرفت الفراغات بعناصر نباتية تم حفرها حفراً عميقاً بحيث تبدو هي الأخرى بارزة أيضاً، والأسلوب الثاني الذي تم فيه عمل الكتابات يعتمد على تقطيع الآجر ونحته ليتخذ شكل الحرف المطلوب، والأسلوب الأول نجده في كتابات واجهة المدخل، أما الأمثلة للأسلوب الثاني فنلاحظها في الكتابات الأخرى الموجودة على جدران هذه البناية.

الأهمية الفكرية للمدرسة المستنصرية
يذكر صاحب الكتاب المسمى بالحوادث الجامعة أنه نقل إلى المدرسة المستنصرية في يوم افتتاحها «من الربعات الشريفة والكتب النفيسة المحتوية علي العلوم الدينية والأدبية ما حمله مئة وستون حمالاً وجعلت في خزانة الكتب سوى ما نقل إليها فيما بعد».
وتبرز الأهمية الفكرية للمدرسة المستنصرية في كونها أول مدرسة مخصصة للمذاهب حيث كانت المدارس السابقة لها يختص كل منها بمذهب واحد أو مذهبين اثنين أو ثلاثة مذاهب، وهي بذلك تهدف إلى جمع الأمة وتوحيدها للوقوف أمام التيارات الفكرية المعادية، لقد كانت هذه المدرسة موئلاً للعلماء والأدباء فقصدها الطلاب من جميع أنحاء العالم آنذاك، فكان لها أثر في الثقافة الإسلامية ذلك لأنها كانت مجمع سائر الدين ومذاهب المسلمين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن