قضايا وآراء

الحرب اليمنية وتشكيل الدور المصري

مازن بلال :

ظهر التحدي المصري داخل التوازنات العربية مع بدء «عاصفة الحزم»، فمعارك اليمن لم تشكل استرجاعا لـ«الحقبة الناصرية»، وصراعها بداية ستينيات القرن الماضي على الجغرافية نفسها وعلى الممر البحري باتجاه قناة السويس، لكنها أوضحت المأزق الإستراتيجي لتحالف يعكس الصورة المتناقضة لأزمات الشرق الأوسط ولصراع المجال الإقليمي للمملكة العربية السعودية في مواجهة دور إيراني مرتقب، فاليمن كانت مساحة الاحتكاك التي تبدو عبثية مع تشتت المنظومة العربية، وعدم قدرة «الكتل التاريخية» في شرقي المتوسط، بما فيها مصر، على صياغة انطلاقة جديدة للمشروع العربي.
عمليا لم تقدم الدبلوماسية المصرية منذ بدء الحرب في اليمن حالة تجاوز سياسي، أو كسر لاحتمالات الانهيار التي كانت تتراكم مع ازدياد الغارات على مختلف المدن اليمنية، لكن صورة هذا «الحلف العربي» بدت مرتجة وقائمة على توازن هش يحاول خلق غطاء عربي؛ بدا مفقودا رغم المشاركة الرمزية لعدد من الدول العربية، فالصراع في اليمن كشف أمرين أساسيين:
– الأول أن خلق منظومة عربية يحتاج إلى أكثر من التوافقات السياسية الآنية، ويحتاج إلى رسم واضح لطبيعة الأدوار الجيوستراتيجية على طول البحر الأحمر، فرغم المسار الذي ظهرت فيه العلاقات بين القاهرة والرياض منذ انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي، لكن اختبار التوافق بين البلدين يحتاج إلى سياق مختلف يستند أساسا إلى مشروع واضح لأي منظومة أو تحالف عربي جديد.
– الثاني هو نوعية التجربة التاريخية المصرية في العصر الحديث، فالمشكلة الأساسية أن الإستراتيجية المصرية تستند إلى تجارب كبرى ابتداء من مشروع محمد علي ومرورا بالمشروع العروبي الذي تبلور بوضوح في الحقبة الناصرية وصولا إلى ما كان يسمى المثلث المصري – السوري – السعودي، الذي ضمن توازنا إقليميا بعد حرب الكويت.
في المقابل فإن الخيارات المحدودة التي طرحتها الحرب في اليمن فتحت مساحة على ممكنات الدور المصري، فتلك الحرب التي تشهد خطا سياسيا موازيا تقوده عُمان؛ لم ترسم أي توازن مختلف على الصعيد العربي، بل ربما على العكس أدت إلى حالة استقطاب واضح داخل منطقة الخليج، فالمأزق الحقيقي هو عدم القدرة على إيجاد ثقل إستراتيجي عربي في موازاة الدور الإيراني، والدور التركي أيضا، الأمر الذي سيدفع مجدداً للنظر إلى المشرق العربي وفق الثقل التاريخي الذي تمثله مصر في رسم توازنات جديدة، فالخريطة السياسية للشرق الأوسط التي لا تحمل انقلابا في المواقف السياسية؛ ترتسم على مساحة من العلاقات الجديدة المعتمدة أساسا على الحد من الأزمات، وربما يبدو الدور المصري جوهريا وعميقا في هذا الموضوع لثلاثة أسباب:
– طبيعة المخاطر التي تعاني منها مصر عبر الحصار الذي تشهده من ثلاث جبهات: جبهة سيناء ونوعية الإرهاب فيها، والجبهة الليبية التي تحمل اضطراباً متنقلاً، وأخيراً جبهة السودان المؤهلة لمزيد من التناقض والتفتيت، وتبدو هذه المخاطر نقطة الانطلاق نحو رسم حدود للأزمات وإيجاد خريطة توازنات جديدة عبر البوابة المصرية، وهذا ما نشهده بخصوص الحدث السوري على سبيل المثال.
– نوعية الجغرافية المصرية التي تشكل مدخلاً بين الاضطراب في شرقي المتوسط والبوابات البحرية من هرمز إلى باب المندب، فمصر تمتد على جناحي هذه المنطقة، ودخولها في التنافس الإقليمي سيحدد مستقبل منظومة الشرق الأوسط في ظل وجود كتل سياسية قوية مثل تركيا وإيران.
– الأزمة الداخلية لمصر التي تظهر اقتصادياً من خلال «حجم الديون» والاستحقاقات نتيجة النمو السكاني، وسياسيا بسبب علاقاتها مع «إسرائيل» وتحكمها بمعابر قطاع غزة، فكسر طوق الأزمات الداخلية يحتاج في النهاية إلى إستراتيجية تتجاوز الواقع الداخلي وتفتح مساحة أوسع لعمليات التنمية على المستوى الإقليمي.
وضمن المسار الذي يمكن أن تلعبه مصر فإن التشابك بين ثقلها الإقليمي وبين واقعها الداخلي سيلغي بشكل تدريجي أشكال الصراع القديم، لأنه في ظل البحث عن نظام شرق أوسطي قادم فإن الجغرافية المصرية ستبدو حاسمة ليس في رسم التوازنات القادمة، بل أيضاً في إلغاء أي احتمال للعودة إلى أي دور وظيفي فقط لها في المنطقة، ومن الواضح أن التحركات المصرية تحاول أن تتجاوز «الشرط الأميركي»، وعلى الانتقال مجدداً باتجاه الشرق، فالمسألة هنا لا تتعلق بصفقات أسلحة مع روسيا أو بعقود اقتصادية مع الصين، إنما بالانتهاء من دور سياسي ساد خلال عشر سنوات تقلصت فيه الإستراتيجية المصرية باتجاه واحد، فمصر تحتاج إلى تلك الملامح الجديدة التي يمكنها أن تبدل المسارات الإقليمية، وفي الوقت نفسه تدفع لظهور منظومة عربية مختلفة عما شهدناه خلال المرحلة الماضية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن