قضايا وآراء

لماذا خرج الدب الروسي من أدغال التايغا؟

د. أسامة سماق :

هل أصبحت اللعبة من دون قواعد؟

في الحوار الذي احتدم حول العلاقات الروسية الأميركية أثناء انعقاد نادي ومنتدى فالداي (المتخصص بالسياسات الداخلية والخارجية لروسيا الاتحادية والذي يحضره سنوياً العديد من الباحثين والخبراء الدوليين) قال الرئيس فلاديمير بوتين: إن الدب الروسي لن يعطي أحداً غابته في التايغا، وأضاف متسائلاً: ما هو مسموح لبعض الجهات (الدولية) ممنوع على الآخرين؟ مذكراً بما حدث في كوسوفو والعراق وليبيا، وأعلن: إننا نرفض ذلك وقال: إن الدب لن يستأذن أحداً. انتهى الاقتباس. كان ذلك في سياق الحوار حول عودة شبه جزيرة القرم إلى موطنها الأصلي روسيا.
من المعروف تاريخياً أن روسيا لم تُمارس سياسات عدوانية ضد أحد بل كانت نتيجةً لصبرها وبحثها المستمر عن الحلول السلمية حتى اللحظة الأخيرة ضحية لعدوان الدول الطامعة في ثرواتها وشواهد التاريخ على ذلك عديدة. منذ عصر ألكسندر نيڤسكي وصده للغزو الصليبي 1240-1242، مروراً بغزو نابليون واحتلاله موسكو 1812، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية 1941-1945 وتهديد القوات الهتلرية للعاصمة موسكو مرة أخرى. حتى إن ستالين قبيل الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي 22/6/1941 رفض كل الإنذارات بحتمية العدوان الألماني مع تحديد تاريخ الهجوم والتي تلقاها من أقنية المخابرات السوفييتية. هنا لابد من الإشارة إلى أن روسيا انتصرت في كل معاركها تلك ولكن بعد أن دفعت ثمناً بشرياً باهظاً، وهنا تصدق المقولة: «عندما يطفح الكيل يخرج الدب الروسي ويدوس جميع خصومه».
ونتيجةً لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية تم التوافق على مناطق النفوذ في العالم في مؤتمر يالطا الشهير والواقعة في جزيرة القرم. وانقسم العالم إلى معسكرين اشتراكي ورأسمالي.
سقطت معظم اتفاقيات وتفاهمات يالطا بغياب الاتحاد السوفييتي بعد عام 1991 وانتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، ودخل العالم في دوامة العصر الأميركي والقطب الواحد وبدأت عملية تهجين وتطويع الدول والشعوب وإخضاعها للسيد الأوحد والجديد على امتداد الكرة الأرضية، حتى إن الدول التي حاولت الاستمرار في ممارسة سيادتها بما يتوافق مع ميثاق الأمم المتحدة، وبما يتلائم مع الميراث الشرعي والقانوني الذي أسسته وحمته الدولة السوفييتية، هذه الدول وجدت نفسها بين مطرقة العقوبات الأميركية التي تحولت بحكم التبعية إلى عقوباتٍ دولية وسندان القوة العسكرية الغاشمة الأميركية.
في منتدى فالداي المذكور ذكّر الرئيس الروسي بالحقبة السوفيتية عندما استعمل نيكيتا خروشوف السياسي (الفذ) كما وصفه حذاءه في الأمم المتحدة، ملاحظاً أن الآخرين حينئذٍ كانوا مضطرين للاستماع إليه، لكن بعد أفول الاتحاد السوفييتي لم يعودوا يحسبون لروسيا أي حساب وهذا ما نرفضه. انتهى الاقتباس.
وهنا أصبح التعامل مع حلفاء روسيا القدامى كغنائم حرب، حتى إن أطماع أميركا وصلت إلى درجة المطالبة بحصة في سيبيريا على لسان كونداليزا رايس، وبدأت الذئاب باللعب في الحدائق الخلفية للكرملين على شكل ثورات برتقالية حيناً وحروب محلية أحياناً أخرى على امتداد جغرافية المجال الحيوي الروسي: حرب ناغورني كراباخ، بريدنيستروفي في مولدافيا، جورجيا وابخازيا، جورجيا وأوسيتيا، انقلابات أوكرانيا،… الخ. وكان تتويج ذلك في حروب الشيشان ضد الإرهاب وعلى الأرض الروسية والتي تم تمويلها من المخابرات الأميركية وحلفائها في السعودية وتركيا…!
إلى ذلك طالت الاضطرابات والحروب الحلفاء التقليديين لروسيا في الشرق العربي في العراق وليبيا وسورية… وسقطت الدول في ليبيا والعراق وأصبحت مصر مهددة وسورية تنزف. وكانت النتائج كارثية لدرجة أن الجغرافيا السياسية في هذه البلدان تمزقت وأصبح نظام الدولة في بعضها لا يتعدى أطروحة نظرية لا تنسجم مع الواقع.
إن الضجيج الهائل الذي خلفه التوسع الأميركي ومحاولته الهيمنة على العالم لا بل خصخصته العالم وتطويبه كملكية خاصة للبيت الأبيض أيقظت الدب الروسي، الذي وجد أن التهديد بدأ يقرع أبواب التايغا خاصته فلم يبق له الكثير من الخيارات فإما أن يفتح أبوابه ويتقاسم ثرواته في أرضه مع الذئب الأميركي أو يخرج من ظلال أدغاله إلى الأراضي المشمسة يخوض فيها معركة الوجود كقطب منافس وموازن للقطب الأميركي…
وهذا ما جرى على امتداد العقد الأخير حيث استطاعت روسيا بقوة اقتصادها الناشئ وجبروتها العسكري أن تفرض إرادتها في حدائقها الخلفية من بريدنيستروفي إلى صمود دول آسيا الوسطى أمام تصدير الإرهاب إليها عبر البوابة الأفغانية، إلى الحفاظ على استقلال كلٍ من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، إلى فرض إرادتها في شبه جزيرة القرم دون أن تطلق طلقة واحدة، إلى حماية جمهوريات شرق أوكرانيا في الدونباس.
واليوم نرى القوة العسكرية الروسية وقد بدأت تعلن نفسها في سورية سواء بتسليح الجيش السوري أو بالدعم اللوجيستي، وأظن أن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت…! حيث إن سورية تشكل آخر الحلفاء التاريخيين لروسيا والنافذة الوحيدة للأسطول الروسي على حوض المتوسط.
إضافة إلى أن المنظومة الإرهابية التي تشكلها داعش وجبهة النصرة والهياكل الرديفة باتت تهدد العمق الروسي، وخاصةً بعد أن اتضح جلياً عدم جدية أميركا في حربها ضدهم لا بل المعلومات تفيد بأن مخابراتها بدأت بتوظيف الإرهاب ضد روسيا ودول آسيا الوسطى، فلا يكاد يمضي أسبوع إلا وتداهم الأجهزة الأمنية الروسية أوكاراً لهم في الجمهوريات الروسية الجنوبية، إضافة للمتطوعين الشيشان والانغوش والبشكير والتتر الذي يقاتلون في سورية. وإمكانية عودتهم ليشكلوا خطراً على الأمن القومي الروسي.
ملخص القول إن يالطا دفنت عندما دفن الاتحاد السوفييتي فاللعبة الجيوسياسية في عالم اليوم لعبة من دون قواعد وخروج الدب الروسي من غابته سيكون لفترة قد تطول إلى حين إرغام الذئب الأميركي على ضرورة الجلوس على الطاولة من أجل الاتفاق على قواعد جديدة، في يالطا جديدة؟ ربما.
وهل تصدق المتنبئة البلغارية فانكا التي اعتُبرت قديسة بعد موتها «راقبوا سورية، فعندما تسقط سيغرق العالم بالدماء».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن