من دفتر الوطن

الشرفاء

| زياد حيدر

أنهيت مشاهدة ثلاثية «ناركوس» الشهيرة التي تسرد وقائع المواجهة التي خاضتها السلطات الكولومبية وإدارة مكافحة المخدرات الأميركية مع اتحادات الجريمة المنظمة، وقياداتها وبين أشهرهم بابلو إسكوبار (1949- 1993).
العمل المشوق، والحرفي بكل المستويات الممكنة، حقق أرقام مشاهدة قياسية وشعبية كبيرة جداً، ووفقاً للروايات والأعمال التي تتحدث في الموضوع ذاته، يمكن القول إنه كان أميناً إلى حدٍّ كبير في نقل وقائع تلك الفترة، وأحداثها الشائقة والمؤلمة معاً.
لكن إلى الجانب الفني، يثير العمل أحاسيس متعددة. شخصياً أتذكر لحظة مقتل بابلو إسكوبار فاراً من سطح بيت إلى آخر، محاولاً تفادي رصاص عملاء إدارة المخابرات الأميركية، وزملائهم من الوحدات الخاصة الكولومبية.
حين ظهر الخبر في وسائل الإعلام حينها أتذكر أن بعضاً ممن أعرفه نعاه كمن ينعى بطلاً أسطورياً.
إسكوبار كان شخصية من تلك الشخصيات التي لا تتكرر كثيراً، لأن ظروف ظهورها لا تجتمع بالضرورة دوماً.
وبالفعل كان الرجل الذي أغرق الولايات المتحدة الأميركية بالمخدرات، مالئاً خزائن ماله بأرقام أرباح أسطورية وصلت أحياناً إلى ستين مليون دولار في اليوم الواحد، وخبأ ما زاد عن حاجته أو أخفق في تصريفه في حقول وغابات كولومبية الكثيرة.
والرجل أيضاً كسب مدينته ميدلين لصفه، بوقوفه إلى جانب فقرائها، فبنى المدارس والعيادات الطبية، والكنائس وسميت شوارع باسمه، وبنيت له تماثيل من جص علقت فوق رأسه فيها حلقة الملاك السماوي الذهبية.
في الوقت ذاته، حول الرجل مدينته لمخبئه العلني المضمون. كلف الأطفال والمراهقين مراقبة الشوارع والتبليغ، وجند شباب المدينة كلها في جيوش صنع وتهريب وتسويق المخدرات، وعلى حين إنه أغرق أسواق الولايات المتحدة بها، فإنه أيضاً فعل الأمر ذاته ببلاده وبالبلدان المجاورة.
لذلك لطالما استفزتني النظرة السطحية لرجال من أمثاله، باعتبارهم «رجالاً وقفوا في وجه أميركا». فعلاً؟
وفقاً للإنترنت في ذمة الرجل عدد ضحايا لا يقل وسطياً عن 20 ألف شخص سنوياً، كقتلى مباشرين أو في حروب العصابات الجانبية.
أيضاً تسبب الرجل باستهدافه الأسواق الأميركية، بإعطاء شرعية للتدخل الأميركي في شؤون بلاده الداخلية، وصولاً لتزكية مرشح رئاسي دون الآخر، من دون الإشارة للمستويات الدنيا من السلطة ولاسيما في مجال الأمن والجيش.
ووفقاً للعمل، وأيضاً للرواية التاريخية، فإن المخابرات الأميركية، دخلت على الخط، بمواجهة مع إدارة مكافحة المخدرات، في سعيها لتقوية عصابات ترويج وتسويق للكوكايين لمواجهة نفوذ إسكوبار، وعاد الطرفان للاشتباك لاحقاً، في ظروف مختلفة ما جعل البلاد أيضاً ساحة لاختلافات مصالح الساسة الأميركيين أيضاً، ويضاف إلى القتل والترويع والتهديد سياسة الإفساد التي برع فيها إسكوبار، ومن جاء بعده، والتي وصلت حدود السيطرة التامة على كل مفاصل القرار لدى السلطتين الشرعية والتنفيذية.
وخلال هذه الحرب التي دامت لعقد من الزمن تقريباً، ظل التهديد الرئيسي في كل محاولات تفكيك منظومة الجريمة وحل شبكات الإنتاج والتهريب، وظلت العقبة الرئيسية دوماً هي في إيجاد شخص شريف غير ملوث بأموال أو تهديدات زعماء العصابات ومخبريهم.
لذلك فإن المعركة تلك، كغيرها من المعارك المشابهة، في كل مكان تبدو في جوانب كثيرة منها، هي في البحث عن ذلك المنزه، النظيف، الذي يضع بلده والقانون فوق كل اعتبار، في مجال الجريمة وفي مجال الفساد، يبقى إيجاد المخلصين الشرفاء، مهمة صعبة ومعقدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن