ثقافة وفن

اللاذقية تستضيف بلبلَ النيل «أم كلثوم» مرتين على مسرح شناتا … البعض باعَ من أثاثِ بيته ليحضرَ حفلتها شخصياً والدخول بليرة ذهبية

| جورج إبراهيم شويط

شهدت اللاذقية في فترة الثلاثينات نشاطاً فنياً ملحوظاً قام بهمّةِ عددٍ من المسارح، التي قدمت عروضاً فنية مثيرة، من تمثيلية وغنائية واستعراضية، أحيتها جوقاتٌ محلية وعربية، استقدمت خصيصاً من مصر ولبنان وكان أشهر هذه المسارح:

• مسرح الخواجات دميان.. المعروف بالميرامار.
• مسرح مقهى عائدة.. المعروف بمقهى الياس جرجي (حالياً مؤسسة عنتر) قرب سينما دنيا.
• قهوة رمضان.. قرب السرايا.
• مسرح شناتا.. على البحر، وهو الأشهر.
وكان مسرح شناتا مؤلفاً من مقهى ومطعم ومسرح ودار سينما، تقام فيه أحسن العروض، لأشهر الفرق الفنية. وكان صاحبُه (محمد شناتا) يعمل على تحسينه باستمرار، ويتعاقد مع ضامني الحفلات لرواد نجوم التمثيل والغناء في الوطن العربي. وممن استقدمهم إلى مسرحه: محمد عبد الوهاب، ويوسف وهبي، وكشكش بك وغيرهم…وكانت حفلات هؤلاء في الأيام المشهودة في تاريخ اللاذقية.
ويضيف الباحث الموسيقي فايز فضول لقرّاء جريدة «الوطن»:
إن أشهر الحفلات التي أقيمت على مسرح شناتا، والتي تركتْ أثرَها الكبير في نفوس أهل اللاذقية هي حفلات (أم كلثوم) وهي ثلاث حفلات، منها حفلتان بتاريخ 17و18 أيلول عام1931 وحفلة واحدة يوم 22 حزيران 1933.
وكان يرافق أم كلثوم في هذه الحفلات الفنان محمد القصبجي، وغنت فيها عدداً من أغانيها الرائعة (يا آسي الحي) و (كم بعثنا مع النسيم سلاماً) و (أقصر فؤادي).
وقد شهدت حفلات أم كلثوم، في اللاذقية، إقبالاً منقطع النظير، وتركت في نفوس أهل اللاذقية أثراً لا يمحى، وما تزال ذكرى تلك الحفلات تتردد إلى يومنا هذا، على ألسنة من بقي حياً ممن حضروها، يستعيدون دقائقها بفخر واعتزاز، ويتباهون بأنهم شهدوا أم كلثوم، بأم العين، وسمعوا صوتها من فمها وليس من المذياع.
وقد خلّد الشاعر محمد سلامة الصوفي حفلة أم كلثوم بقصيدتين من الشعر، عبّر فيهما عن الأثر الذي تركته أم كلثوم في نفوس أهالي اللاذقية ومما قاله في القصيدة الأولى:
قيثارة الشرق ذات اللطف آسية الأرواح منعشة الأعواد والقصب
حمائم الأيك منها قلّدت نغماً وهل تقاس مصابيح على الشهب
وقال في القصيدة الثانية:
حمامة النيل هيّجت الهوى فينا فاكثري سجع تغريد وزيدينا
وداوي أرواحنا بالصدح أن بها صدعاً من الهم مضاضاً فداوينا
وانشدي قولك المشهور فهو دوا (ياآسي الحي) هذا منك يحيينا
وعادت أم كلثوم إلى اللاذقية مرة ثانية بعد عامين وأحيط حضورُها برعاية واسعة، وباستعداد كبير. فبتاريخ 20 أيار 1933 وعلى صفحة غلافها الأخير الإعلان التالي:
(أم كلثوم في اللاذقية)
يسرنا أن نعلن للقراء أن الشاب الناهض السيد (محمد أفندي شناتا) حضر من بيروت بعد أن تمّ الاتفاق بينه وبين حضرة الوجيه السيد (أحمد الجاك) ضامن حفلات الآنسة أم كلثوم، التي شهرتها عمّت الخافقين إذ تصل إلى بيروت في أواخر الشهر الحالي، على أن تقيم حفلة واحدة على مسرح شناتا الكبير على البحر.
وقبل أسبوع من الحفلة نشرت جريدة الإرشاد أيضاً، تحت العنوان نفسه (الآنسة أم كلثوم في اللاذقية)
الإعلان التالي:
(الآنسة أم كلثوم في اللاذقية)
ملكة الطرب والإنشاد، بلبل مصر وسورية وجميع البلاد العربية الآنسة أم كلثوم تغرد في سماء اللاذقية مساء الخميس22 حزيران سنة 1933 على مسرح شناتا الكبير على البحر. فاستعدّوا يا عشاق الطّرب والصوت الشجي، واحضروا هذه الليلة الوحيدة، التي قلّ أن يسمحَ الدّهرُ بمثلها، وهي (ليلة في العمر مافيش منها) /جريدة الإرشاد العدد 14/ تاريخ 16 حزيران 1933.
وكان حضورُ أم كلثوم إلى اللاذقية في المرتين الأولى (1931) و الثانية (1933) حدثاً فريداً في حياة المدينة واللاذقيين، فلم يبقَ أحد في اللاذقية يستطيع أن يدفعَ رسمَ الدخول إلى مسرح شناتا إلا وحضر، وكان الحضورُ كثيفاً جداً، ومن الأهالي من باع من أثاث بيته أو رهنه ليحصل على ثمن التذكرة (ليرة ذهبية) وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى ذلك الزمان.
وما كادت أم كلثوم تنتهي من وصلتها الغنائية الأولى حتى هبّ واقفاً المرحوم (منح هارون) وصرخ بأعلى صوته: يا أم كلثوم …بهت الناس لصراخه، ووجهوا إليه أنظارهم.
ولما رأى الدهشة تطل عليه من العيون المستغربة قال بهدوء وبرودة أعصاب، وهو يشير إلى رفيقيه (اسبيرو مرقص وعبد الكريم الجرجس): (هذان استغاباك)…
وبعد لحظة صمت قصيرة ارتجل القصيدة التالية:
يا أم كلثوم هذان استغاباكِ وأظهرا ريبة في أصل منشاكِ
هذا يقول: لعمر إنها ملك وذا يقول: ملاك فوق أفلاك
أما أنا فاسمعي قولي فلست أرى بأساً بأن أدعيك الصوت في الحاك
(كنافة) رقة (معجوقة) أدباً ومن (حلاوة) حسن الصوت أعطاكِ
يا حاضراً أم كلثوم وحفلتها (كل واشكر) الجاك أن الفضل للجاكِ
والجاك هو أحمد الجاك، ضامن حفلات أم كلثوم في سورية ولبنان. وقد جمع المرحوم منح هارون في هذه الأبيات جميعَ أنواع الحلويات التي اشتهرت بها اللاذقية، ليعبر بها عن جمال صوت أم كلثوم.. (مرجع تاريخ اللاذقية د. هاشم عثمان) (637/م-1946/م).
يختم الباحث فضول بالقول:
إن القصائد التي قيلت في أم كلثوم، تعتبر من تراث اللاذقية الأدبي، وهي تشكل صفحة مجهولة من حياة حمامة النيل. ولا من ينتبه إليها، على الرغم من الدراسات الكثيرة التي صدرت عن أم كلثوم وفنها.
كما تجدر الإشارة إلى أن أم كلثوم زارت، ومعها فرقتها، مدينة حلب عام 1931، وأقامتْ فيها ثلاث حفلات، حيث نزلتْ في فندق بارون، وغنت في مسرح الشهبندر الجديد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن