قضايا وآراء

من دمشق.. قبل الذهاب إلى اسطنبول

| سركيس قصارجيان

فصل جديد من فصول الاستعراض السياسي للرئيس التركي رجب أردوغان أْسدل عليه الستار على مسرح الأمم المتحدة بعد عرضه الفردي الذي تجاوز النصف ساعة تركز أكثر من ثلثه حول سورية.
في الحقيقة لم يأت هذا العرض بأي جديد سوى أن آمال السلطان في المنطقة الآمنة التي يحلم بها منذ اندلاع الأزمة السورية، امتدت حدودها إلى دير الزور متضمنة الرقة بعد أن كان الحديث بداية عن عمق 30 كم فقط، كل هذا مقدم طبعاً بالغلاف الأكثر جذباً وإثارة للاهتمام الخارجي في الفترة الأخيرة، والأعلى حساسية في الداخل التركي، ألا وهو اللاجئون.
هذه الحساسية أيقظت «حزب الشعب الجمهوري» مؤخراً من ثبات عميق فقرر هو الآخر دخول معترك الأزمة السورية من بابه الإنساني عبر الدعوة إلى مؤتمر مركزي يوم السبت القادم يحضره إلى جانب قياداته أكاديميون وصحفيون وشخصيات سياسية تركية وأوروبية وسورية، ومنهم أنا كباحث مستقل متخصص بالشأن التركي، لمناقشة الحرب السورية بخطوط عامة وملف اللاجئين بشكل خاص ومركز.
الصحوة المتأخرة للمعارضة الأم في تركيا ولو أن مردها بالدرجة الأولى اهتمام أوروبي خاصة والعالم بشكل عام، بمآل السوريين الذين توزعوا في أنحاء المعمورة بعد تحول مدنهم وقراهم إلى «أرض للجهاد»، إلا أن جملة من الأسباب تساعدنا على فهم «سياسة اللاجئين» التي يحاول حزب الشعب الجمهوري اتباعها في وجه خصمه الشرس الذي حرمه طوال السنوات الماضية من التفكير حتى بالتأثير أو المشاركة في القرارات الاستراتيجية وخاصة الملف السوري.
بداية لا بد من التذكير بأن حزب الشعب الجمهوري، رغم صوته الخجول، إلا أنه لم يتوقف يوماً عن المناداة بضرورة حل الأزمة السورية وتفادي انعكاساتها السلبية على الداخل التركي عبر قناة التنسيق مع دمشق، مستنكراً كل الحلول البديلة المطروحة أردوغانياً والتي أثبتت فشلها طوال السنوات الثماني الماضية.
أولى ثمار «سياسة اللاجئين» التي بدأت المعارضة التركية بانتهاجها كان حرمان العدالة والتنمية من رئاسة البلديات التركية الكبرى، بعد ربع قرن من حنين حزب أتاتورك للكرسي الذي كاد يطوب باسم إخوان تركيا. انتصار «حزب الشعب»، إضافة إلى تعزيز ثقته بفاعلية سياسته الجديدة، أسهم في حقن صفوفه المترهلة والمحبطة من سلسلة الهزائم المتتالية في الاستحقاقات التركية منذ تفرد أردوغان بالمشهد السياسي بجرعة أمل قد يعيده إلى ميادين المشاركة في القرارات المصيرية رغم بقائه خارج السلطة كما كان الحال ما قبل الألفين.
في المقابل أمسى أردوغان تحت ضغط سياسة معارضيه الجديدة مجبراً على تسريع مشاريعه المؤجلة وإيجاد حلول سريعة لملف اللاجئين، ولو كانت بعيدة عن المنطق والإنسانية، وهو ما بدا واضحاً في كلمته في الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تركزت على شقين:
1- التسول باسم اللاجئين عبر إظهار بيانات منقوصة وغير واقعية بالحديث عن 40 مليار دولار يزعم السلطان العثماني صرفها على اللاجئين السوريين، في وقت تشير أغلب التقارير الإعلامية والأبحاث الأكاديمية أن النسبة الأكبر من اللاجئين السوريين في تركيا تعيش في المدن وتزاول الأعمال المهنية والحرفية بأجور زهيدة وساعات عمل طويلة جداً دون أي مساعدات مالية أو عينية من الحكومة التركية، وحتى في المخيمات فإن التقديمات التي تنالها النسبة القليلة القاطنة فيها عنوة، هي عبارة عن مساعدات غذائية لا تكاد تكفي لسد الرمق.
في المقابل يتغافل أردوغان عن الأموال الساخنة التي تدفقت إلى تركيا مع بدء المجموعات التكفيرية باستباحة المدن السكنية والصناعية وخاصة في الشمال السوري والمقدرة بمليارات الدولارات لرجال أعمال وصناعيين وحرفيين حاولوا مواصلة نشاطهم الاقتصادي في تركيا، إضافة إلى المعامل والبنى التحتية التي تمت سرقتها ونقلها إلى تركيا من معدات وآلات وخطوط إنتاح كاملة بل حتى سكك الحديد لم تسلم من عملية النهب الممنهج.
2- محاولة الاستثمار مجدداً في ورقة اللاجئين عبر الإيهام بأن أي محاولة للقضاء على فروع القاعدة المتمركزة في إدلب سيفتح الباب أمام موجات هجرة جديدة محاولاً ابتزاز أوروبا مجدداً وإجبارها على الخضوع للشروط التركية، المالية منها والسياسية، وفي الوقت ذاته الترويج للمنطقة الآمنة التي يطرحها كحل لقضية اللاجئين السوريين يسهم في إنهاء الملف الأكثر ضغطاً عليه في الداخل التركي عبر الإيحاء بأن العائدين إلى مناطق الاحتلال التركي في الشمال السوري من الباب وجرابلس وعفرين يعيشون حياة وردية هادئة هنية متجاهلاً التقارير الأممية والأخبار اليومية عن التجاوزات التي ترتكبها هناك الميليشيات التابعة للمخابرات التركية من خطف وقتل واغتصاب للأراضي ناهيك عن الضحايا من المدنيين نتيجة الاقتتال الداخلي بين تلك الفصائل على تقاسم الغنائم وتوسيع نطاق السيطرة وإدارة المعابر والحواجز وغيرها.
في النهاية من المؤكد أن مؤتمر اسطنبول لن يأتي بحل سريع وناجع للأزمة السورية، لكنه يفتح الباب أمام صوت أكثر منطقية مقارنة بالضجيج الذي علا في تركيا طوال سنوات الحرب السورية والذي ارتكز على حلم أداء صلاة العيد في الجامع الأموي، صوت يعزز ما قلناه سابقاً ودائماً بأن لا طريق لحل الأزمة السورية سوى ذاك الذي يمر من دمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن