ثقافة وفن

خطوة متقدمة في الإنتاج الخاص.. العام السينمائي … «دم النخل» يجسد إحدى الملاحم التدمرية … خالد الأسعد وأبطال الجيش يكتبون بدمهم التفاصيل

| نهلة كامل

يختار المبدع نجدة إسماعيل أنزور تجربة الإنتاج السينمائي ليقدم بالمشاركة مع المؤسسة العامة للسينما فيلمه الجديد «دم النخل» من إخراجه وكتابة السيدة ناديا كمال الدين للسيناريو، ويحقق الفيلم في سرعة قصوى وتوقيت مناسب قبل أن تبرد الدماء.

التحدي التدمري
ويتابع «دم النخل» مسيرة أنزور السينمائية في حربه على الإرهاب ليكون الفيلم الرابع في سنوات الحرب، ويتميز عمل أنزور السينمائي في هذه المرحلة بالوضوح الفكري، والالتزام المبدئي، والتوجه الجماهيري، وكشف حقائق الحرب التي شنتها قوى الظلام ومن ورائها طغاة الدول الدولية والعربية للاستيلاء على ثروات سورية وحقوق شعبها، فكانت داعش وأخواتها سيف هذه الحرب وأداتها كما حصل في تدمر وما سبقها من المواقع والمدن السورية.
الحدث السينمائي الآن في مدينة تدمر التاريخ والحاضر، كما قدم أنزور الرقة في «فانية وتتبدد» وسجن حلب المركزي في «رد القضاء» إحدى البلدات السورية في فيلم «رجل الثورة».. وقد اتبع أنزور تقديم أحداث حقيقية في «دم النخل» مثل كل أفلامه أثناء الحرب على سورية، واستند بكل وضوح إلى التفاصيل والشخصيات المعروفة والوثائق الموجودة، لكنه لم يقدم الفيلم بمعناه التوثيقي، بل الروائي، ذلك كي يتيح للحدث الدخول في أعماق الأبعاد الإنسانية وانعكاساتها المصيرية على أرض الوطن.
وقد واجه أنزور التحدي الأكبر وهو تقديم عمل سينمائي يضاهي الحدث الواقعي ويوازي هجوم داعش الشرس على التاريخ والواقع بمعاني التضحية والشهادة والأبدية.

المنطق الدرامي
يتكامل المنطق الدرامي مع التوثيقي في فيلم «دم النخل»، ليستند إلى قامات عملاقة في التاريخ والحاضر لمدينة تدمر. ويبني عالمه السينمائي الموثق على شخصية الملكة زنوبيا، وعالم الآثار الشهيد خالد الأسعد، والشاعر عمر الفرا، وقبل كل شيء على بيئة تدمر رمز الأبدية، وحاضرة الجغرافية والحضارة السورية المستهدفة من قوى الشر طوال عمرها المديد.
أما المنطق الدرامي فيقوم على رواية تضحية ثلاثة جنود شهداء من الجيش العربي السوري، أثناء هجوم داعش على تدمر، أما الشهيد الرابع في «دم النخل» فهو عالم الآثار الدكتور خالد الأسعد.
التضحية بمعنى الانتصار هو ما يقدمه فيلم «دم النخل»، وإن كانت السيدة ناديا كمال الدين لا تصور انتصاراً مباشراً أثناء هجوم داعش على تدمر. لكننا نجد في منطق، ومغزى، فيلم نجدة أنزور أن التضحية والشهادة ترتفعان إلى سماء انتصار إنساني في تدمر كما في غيرها من المواقع السورية، وأن بقاء الشخصية السورية وروح التاريخ ومقاومة الحاضر هو تفوق الإنسان على ظروفه وتحدياته عندما تهجم داعش كأداة لأشرار العالم.

ملحمة البقاء
يؤجل «دم النخل» الانتصار العسكري المباشر إلى ختام الفيلم، وهو يصور دخول الجيش العربي السوري إلى تدمر بعد سيطرة داعش على المدينة وسرقتها للآثار وتدميرها لأوابد، لكنه في التفاصيل يعرض الرواية الموازية في الحاضر لتاريخ تدمر، الأمر الذي يشبه واقعة هجوم داعش على المدينة، حيث يقدم الفيلم الإمبراطور الروماني الذي دخل تدمر واعتقل الملكة زنوبيا وهو يتساءل عن معنى هجومه على تدمر التي ما كانت لتخسر في ظروف إمدادها العسكري الطبيعي، ويؤكد على لسان الشهيد خالد الأسعد أن التلمود يوصي بضرورة الهجوم على التدمريين، وإسقاط مملكتهم.
ويقوم «دم النخل» على اعتبار بقاء تدمر ملحمة في التاريخ والحاضر السوري، ويعتبر التضحيات العسكرية والإنسانية التي قامت عليها أحداث «دم النخل» هي الملحمة الوطنية الواضحة في ظروف عسكرية قاهرة.
أربع شخصيات بمعنى أربع تضحيات إنسانية وعسكرية كبيرة هي التي جسدت ملحمة تدمر في فيلم أنزور. الذي يؤكد على المعنى منذ البداية حيث جمع شهداءه الأبطال معاً في صورة جماعية واحدة قبل الحدث وهم: العالم خالد الأسعد والجنود السوريون الثلاثة، وأعطاهم ثلاثة دفاتر صغيرة كي يدونوا عليها ملاحظاتهم التي يفترض أن الفيلم استعان بما ورد فيها.

أبعاد الملحمة
يجد المخرج نجدة أنزور ملحمته المنشودة في مدينة تدمر، أثناء مواجهة هجوم داعش، ويحققها بإيمان وحماس واضحين، إنها من حيث المبدأ والفكرة حدث كامل الأبعاد والعناصر يتكامل ليجدد صورة تدمر الملحمية في التاريخ والحاضر.
وتعطي تدمر للفكر والفن إلهامها الجميل، ورموزها الإنسانية الخالدة، وملحمتها الواقعية التي يلتقطها أنزور بحساسية السينمائي وشعوره الوطني المندفع، ويقابل كرم المدينة التاريخية، بكرمه الوجداني الفني ليحقق ما تصبو إليه ذاته السينمائية.
ويجد «دم النخل» عناصر ملحمته متوافرة في غنى تدمر، إنها شخصية الملكة زنوبيا، وواحة النخل، والمدينة الأثرية وفكرة تعرض تدمر لهجمات خارجية توازي استهداف سورية الآن من طغاة العالم وأدواتهم.
ويلتقط «دم النخل» أبعاد تدمر الجمالية التاريخية، ومغزى بقائها الإنساني ليوظفها في ملحمته الجديدة، كما يختار عناصر تدمرية خالدة هي شخصيات: خالد الأسعد وعمر الفرا، والطفولة التدمرية، إلى جانب شهداء الجيش العربي السوري الثلاثة كي يرسم صورة النخل النازف، لكنه يعتمد قبل كل شيء على روح الملكة زنوبيا الآبدة والحاضرة دوماً في زوايا المكان، والضابطة لإيقاع الحدث مهما ذهب بعيداً في مواجهة العدوان، أو تصاعد عالياً إلى قمة التضحية في سبيل الوطن.
ويقف أنزور مسحوراً بدلالات تدمر، وتاريخها وجمالياتها ورموزها، فلا يجد أنه بحاجة إلى أكثر من التقاط ملحمتها المتجددة في مواجهة قوى الشر الأسود، وتجديد رموزها في التضحية والبقاء الإنساني على مر العصور، ولعل تفهم روح المبدع الوطني والإنساني نجدة أنزور التي تسري في «دم النخل» تفسر لنا حماسته واندفاعه ومبادرته الخاصة لإنجاز عمله السينمائي في وقت قياسي.
لكن اعتبارات نجدة أنزور الفكرية والفنية، وقضيته المستمرة في مواجهة الإرهاب والتطرف، تجعل من فيلم «دم النخل» عملاً مهماً في مسيرته السينمائية، ويضيء على الجانب المؤسساتي في عمله الذي أدى إلى إشراك كتاب بارزين في أعماله أهمهم الكاتب حسن. م. يوسف، وفيلمه الناجح الأخير «رجل الثورة» وإلى تعامله مع السيدة هالة دياب ونادية كمال الدين الآن، لكن رؤية نجدة أنزور وطموحه وحماسه لقضيته وطاقته الإبداعية المجددة والمتجددة تجعله لا يفقد قيادة فيلمه الخاص، ذلك أن أنزور لا يعمل تحت مفهوم سينما المخرج- المؤلف، إنما يليق به تحريك مؤسسته إنتاجياً أيضاً، وبما يتفق مع رؤى المؤسسة العامة للسينمائي «دم النخل».

تفاصيل نازفة
وتتولى السيناريست نادية كمال الدين، التي يبرز دورها في مؤسسة أنزور بعد عملها في فيلم «رد القضاء» العملية التنفيذية تحت إرشادات أنزور التي يجد فيها مؤلفة متفهمة وملبية لروح مبادراته وفي أوقاتها المطلوبة، ويعطيها جانباً حراً في إبداع التفاصيل.
ويختار «دم النخل» تفاصيله من بطولة وتضحية أربعة شهداء: خالد الأسعد وإلى جانبه ثلاثة جنود من الجيش العربي السوري الموجود للدفاع عن تدمر، وقد أبدع كل من النجوم: لجين إسماعيل، جوان خضر، مصطفى سعد الدين. في تجسيد شخصيات هؤلاء الشهداء فكانوا في قمة تعبيرهم عن تضحيات الجيش وروحه العالية في الشهادة والفداء، كما جسدت شخصية العالم خالد الأسعد التي قدمها الممثل القدير محمد فلفلفة ببراعة وتقمص لافتين، تلك الروح الحضارية للإنسان السوري والتدمري التي نحت بأصابعه الأوابد وضحى بروحه للحفاظ عليها، لقد كانت تفاصيل الخط الدرامي تضحية وشهادة العالم خالد الأسعد معبرة وهي تتوقف عبر أبرز معالم شخصيته الإنسانية وأفكاره الحضارية ومواقفه الصلبة، وكانت بالتالي شاهدة على توحش داعش وهمجيتها وخاصة في مشاهد جعلته، وهو ابن الثمانين، يسير على الزجاج المكسور، أو قطع رأسه بحد السيف.
وإن كانت قيمة السينما باختيار التفاصيل فلابد من التنويه باختيار «دم النخل» لحضور الملكة زنوبيا التي جسدتها بتميز وتألق وبراعة النجمة مجد نعيم، والتأكيد على جعل وجودها في كل مكان وفي اللحظة ذاتها للوقوف إلى جانب أبنائها وهم في طريق التضحية والشهادة ساند الشكل الملحمي للفيلم، كما أن الاختيار الدقيق الموفق لشخصية شاعر تدمر الكبير عمر الفرا ولمقاطع من شعره تؤكد على الحرية والمعاناة وتقديس حب الوطن، وجعل مفهومها متصاعداً حتى الوصول مع أبطال الفيلم إلى قمة الشهادة أعطى لمفهوم تدمر البيئي والتاريخي والوجداني رقة ومشاعر وعمقاً نبيلاً في مفهوم الوطن.
ولعلي لا أستطيع التوسع في شخصيات الفيلم الإيجابية ومواقف الدفاع عن الوطن، لكننا لابد سنتوقف لدى شخصية التدمري النبيل الذي يغامر بنفسه لحماية أحد أفراد الجيش العربي السوري وبالأم العظيمة التي قاومت زوجها الخائن والمتعاون مع داعش، والتي أعطت تفسيراً كبيراً لأن يكون ابنها شهيداً بينما زوجها جاسوس.
لقد استطاعت تفاصيل ملحمة «دم النخل» أن تجسد عنوان النزيف فداء لأرض الوطن، الذي جسده الشهيد خالد الأسعد والجنود الأبطال الثلاثة، وأن تحقق هدف نجدة أنزور تحت العنوان المناسب، وفي الوقت المحدد المطلوب.

الرؤية الموسيقية
وقد اختار نجدة أنزور أن يقدم رؤيته الإخراجية لملحمة تدمر الجديدة مترافقة برؤية موسيقية سيمفونية، ألفها الموسيقي المبدع رعد خلف، فكانت عملاً كبيراً مؤثراً استطاع أن يعيد قراءة إيقاع الملحمة بألحان تروي التفاصيل بأصواتها الخاصة، وقد وحدت موسيقا رعد خلف الخطوط الدرامية ورفعتها بإبداع إلى سماء الملحمة، فكانت تروي مواقف الهجوم الوحشي وتتسع لتحتضن جماليات تدمر متوقفة في زوايا عبقها التاريخي، ومرافقة لأبطال ملحمة تدمر الجديدة في مواجهاتهم وسلوكهم النبيل حتى الاستشهاد. وقد أعطت لحضور زنوبيا ذلك العمق الروحاني والتاريخي العابر للزمن، ولتضحية الشهيد خالد الأسعد صدق الأحاسيس المرافقة لمواقفه الكبيرة.
إن ما ألفه الموسيقار الكبير رعد خلف لإيقاع «دم النخل» الملحمي كان عملاً مميزاً ومؤثراً، وكان حدثاً بارزاً وهو يقدم في افتتاح «دم النخل» على خشبة دار الأوبرا قبل العرض استطاع أن يقود بروح ملحمية إلى أحداث الفيلم.

خطوة إلى الأمام
يحقق نجدة أنزور في فيلمه الجديد «دم النخل» خطوة إلى الأمام في مجال الإنتاج السينمائي بالمشاركة مع المؤسسة العامة للسينما، ويفتح مجالاً في الإنتاج السينمائي الوطني، لعل أكثر من جهة خاصة تقتدي بهذا العمل.
ونستطيع ملاحظة أن الحس الوطني لدى أنزور في سنوات الحرب، وحسه الإنساني في تعرية الإرهاب والظلامية، والاندفاع، بل المغامرة أحياناً، للتعبير بلغة السينما عن الموقف، والرد على الهجوم المتوحش، بمفردات الفن، في توقيت يفرض نفسه على ذاته ويؤرق إبداعه، يجعلانه يبادر إلى تقديم عمله الخاص في محيط واسع من الأحداث والمواقف والأفكار.. «دم النخل» هو إحدى الملاحم وبالتأكيد ليس كلها، لكنه يقدم النموذج لضرورة تكاتف الرؤى والتجارب المتعددة في تدفق حياتنا الفكرية والسينمائية.. الذي يجب ألا ينضب.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن