من دفتر الوطن

الموت بعيداً

| زياد حيدر

«أنا آسفة أبي وأمي. الطريقة التي سافرت بها إلى الخارج لم تكن موفقة. أمي أنا أحبك وأبي جداً. أنا أموت لأنني لا أستطيع التنفس. أنا آسفة جدا يا أمي».
هذا كان آخر ما كتبته شابة فيلبينية يعتقد أنها كانت بين مجموعة مؤلفة من 39 شخصاً لقوا حتفهم خنقاً في حاوية شاحنة تجارية في المملكة المتحدة، منذ أيام.
الحادثة التي صعقت المجتمع البريطاني ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، نتيجة نشاط خط التهريب البشري هذا، بين العديد من دول العالم وأوروبا.
ففي العام الماضي اكتشفت شاحنة تبريد في النمسا تضم جثث 71 شخصاً لقوا حتفهم اختناقاً. وعُثر حينها على جثث رجال ونساء وأربعة أطفال بينهم لاجئون من سورية إضافة لآخرين من العراق وأفغانستان. وينشط خط التهريب بين دول أوروبا الغنية والدول المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين، عبر بلغاريا، وتركيا، ولكن زاد نشاطها مؤخرا في كل من ألمانيا وبلجيكا، وتنوع وسائلها بين التهريب السري الخطير، والتهريب بمستوى رفاهية عالٍ، عبر تنظيم وثائق طلاب، أو زيجات وهمية.
إلا أن الأعداد المثيرة لشهية المهربين، تظل بالمجموعات الكبيرة التي يتم نقلها بوسائل نقل جماعية، والتقاضي منها بشكل مسبق.
والفتاة التي فقدت حياتها في شاحنة النقل تلك، دفعت وفقا لوسائل الإعلام أربعين ألف دولار بغرض الوصول لبريطانيا، هي مجمل ما امتلكه واستدانه أهلها في فيتنام.
وهو مبلغ يستدعي تحصيله، أو استعادته في دولة أوروبية، وخصوصاً بالنسبة لمهاجر غير شرعي، عمراً من العمل، إن لم يكن أضعاف هذا العمر، ودون أمل تقريباً بتحصيله. وبالطبع من الجانب الآخر ترى أعداد متزايدة من الأوروبيين أن الهجرة غير الشرعية تشكل تهديداً لأمنهم القومي، والديمغرافي، خصوصاً بعد ارتفاع وتيرتها بسنوات الكابوس العربي المستمر، لمستويات تاريخية، من دون وجود سياسات مناسبة للتعاطي مع تلك الأعداد واستيعابها.
ومع ذلك فإن قصص الرعب التي نقلت في السنوات الماضية عن تجارة تهريب البشر عبر المتوسط تفوق بكثير تلك التي تجري عبر البر. والفارق الكبير بين الحدثين، هو أن الأول مكرر والثاني يكتشف بشكل أقل. والأول تضيع دلائله في أعماق البحار، فتغسل أمواجه آثار الكوارث، أما الثاني فيبقى متاحا تحت أضواء الكاميرات ما يحتاجه من زمن للفضوليين.
وبالطبع سجلت وثائق منظمات الهجرة مقتل عائلات بأكملها بمحاولات عبور المتوسط من شواطئ ليبيا بشكل خاص.
وسواء كان الهارب، أو المهاجر، يسعى لتحسين شروط حياته وحياة أولاده من بعده، أم أنه يفر من احتمالات الموت السريع في حرب ما، فإن التاجر والمهرب هو ذاته يستفيد بالطريقة ذاتها من عملية النقل دون أن يهتز له جفن.
وبينما تفيض سجلات المنظمات الدولية بقصص الناجين التي لا تقل مأساوية عن تلك التي تروى عن غير الناجين، إلا أن قدرة الأمن الدولي على تفكيك شبكات التهريب لا تختلف عن قدرة المجتمع الدولي على تفكيك النزاعات التي تحرك البشر نحو مصائر متشابهة، أو نزعة الطمع لدى الدول الغنية تجاه الدول الواعدة أو النامية، أو بؤس نظم الحكم وطرائقه في بلدان كثيرة من هذا العالم. رغم كل هذا.. يظل المهاجر، اللاجئ، الهارب، يحلم في نهايات تلك الرحل البائسة الخطيرة.. بأن يعود يوما ما لوطنه.. ليموت بين أهله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن