ثقافة وفن

الجدوى والجدوى السياسية

| إسماعيل مروة

منذ أيام أرسل لي اقتصادي د. عامر خربوطلي مقالة أسبوعية يكتبها ويوزعها على الأصدقاء والمعارف تحت عنوان الأربعاء الاقتصادي، وكلما أرسل شيئاً أقرؤه بعمق وإمعان، فهو خبير ومطّلع، وخاصة عندما يشرح بعض المصطلحات الاقتصادية الغربية أو النظريات، أو يعرّف بإحدى الشخصيات التي تركت أثراً، وبالأمس القريب أرسل مقالاً مهماً عن الجدوى الاقتصادية، وأعترف بأنني كدت أمرّ عليه من دون قراءة فالجدوى معروفة ومتداولة، لكن إشارته إلى أن هذا المصطلح معروف ودارج دفعني لقراءة المقال الاقتصادي، وأخلص إلى أنه مقال معرفي علمي أكثر منه اعتناء بالجانب الاقتصادي، ولعلّ أهم ما وقفت عنده في هذا المقال أن الجدوى غاية بحد ذاتها، وأي مشروع مهما كان كبيراً أو صغيراً لا بد من دراسة جدواه الاقتصادية، وإلا كان المشروع خاضعاً للاحتمالات، والجدوى تتعلق بالحاجة لهذا الأمر، والعوائد المتوقعة، والمكان الذي يكون فيه، والشريحة المستهدفة منه، وقضايا أخرى كثيرة تتعلق برأس المال والتمويل.. لكن النقطة الثانية وهي الأكثر أهمية بالنسبة لي، ولا أظن أن صديقي الدكتور أعطاها هذا البعد في أثناء الحديث لأنه موجه إلى شريحة محددة من القراء الاقتصاديين، وأنا لست منهم بطبيعة الحال، هي أن دراسة الجدوى يجب أن تكون أصيلة، وأن تأخذ في حسبانها البيئة، فالمشروع الذي قد يستلهمه أحد الاقتصاديين والمتمولين من بيئة أخرى وينقله إلى بيئته، عليه – كما فهمت – أن يحدد جدواه وأن يدرسها وفق معطيات البيئة، ويفترض ألا يعوّل على نجاحه المطلق في بيئة متقدمة أو إخفاقه، فالحاجة المجتمعية هي التي تحدد نجاحه، فإذا ما نجح مشروع تنموي في عالم متقدم يمكن أن يتم نقله، ولكن شريطة أن تتم دراسة جدواه دراسة دقيقة وفق البيئة الجديدة، لأن تحديد الجدوى والاستمرارية يتعلق بالشريحة والمستفيدين والتكاليف وتوابع القضايا، وهذه إشارة ذكية وخفية بأن أغلب المشروعات التي أخفقت لم تخفق لعدم جدواها، بل لأننا لم ندرس جدواها بشكل دقيق وفق البيئة النامية، وهذا يحدد سقف النجاح والعوائد والاستمرارية فيما بعد، وفق الحاجة المجتمعية والإنسانية.
أثارت فيّ هذه الخاطرة الاقتصادية الكثير من الشجون على الصعد كافة، فلماذا لا تخضع أمورنا كلها إلى دراسة جدوى من السلطات التي تريد أن تنجز أمراً ما، ومن الناس من الذين يريدون طرح رؤية أو فكرة، ومن الباحثين الذين يعتمدون الارتجال في كل أمر يقومون به، فإذا كان الأمر يناسب مجتمعاً متقدماً ومتحضراً، فقد لا يناسب مجتمعاً نامياً كمجتمعنا العربي، وهذا الكلام ليس انتقاصاً من مجتمعنا وإمكانيات أفراده، وليس دفاعاً عمن يدّعي أن مبادئ الغرب وأساليب حياته وتفكيره ليست لنا، وليست ممكنة التطبيق لدينا.
الحراك المجتمعي والقيمي والمعرفي هو الأكثر أهمية، وعلينا أن نسعى لهذا التطوير المتكامل قبل أن نفكر في تطبيق النظريات الجاهزة، لأن النظريات تتولد نتيجة التفاعلات الاجتماعية الطويلة المدى الناتجة عن تخمّر وخبرات تراكمية، لذلك تكون واضحة وممكنة التطبيق، ومتساوقة مع الحركة المجتمعة في تلك المناطق المتقدمة، لأنها ولدت في البيئة المناسبة، وخرجت من الأرض المختمرة لتكون علامة لها، وحين نقوم نحن بتطبيقها نخفق، ونشتم تلك الأفكار، والأمثلة كثيرة من مثل النظريات السياسية اليسارية واليمينية على السواء، والنظريات الاقتصادية، والنظريات الاجتماعية الصادرة عن مجتمع بكل ما فيه من خصوصيات، وقد رأينا هذه الإخفاقات التي هزت كيان مجتمعاتنا العربية، وأثرت في نفسيات الإنسان العربي في كل مفصل من المفاصل، حتى في الثقافة والأدب، فإن النظريات الأدبية والنقدية والنفسية التي جاءتنا هي من الأهمية بمكان، وعلينا أن نسعى لفهمها ودراستها، ولكن أن نهيئ الأرضية الفكرية والأدبية الصالحة لاستقبالها، ولكن ما حدث هو أن الذين تأثروا جاؤوا بهذه النظريات وبشيء من التعالي، ما أدى إلى إخفاقها، وحبذا لو تم من الباحثين دراسة الجدوى قبل أن يتم طرح هذه النظريات، ولو تمت دراسة الجدوى، وعرف الباحثون أن النتائج ستكون سلبية بالمطلق، لأمكن تأجيل طرح الأفكار والنظريات حتى تتهيأ التربة المناسبة لطرح مثل هذه الآراء والأفكار حتى لا تفقد جوهرها.
ينادون وننادي بالديمقراطية وما شابه، وهي حاجة ضرورية، ولكن دراسة الجدوى تحدد النمط المناسب الذي ندعو إليه أو ننادي به، وفي هذا السياق أتذكر كتاباً لا يُنسى، وهو أول كتاب قمت بمراجعة ترجمته لغوياً في حياتي المهنية عام 1989، وهو كتاب (الفرق الثقافية بين الأمم) للكاتب الفرنسي غيرث هوفستيد، وهذا الكتاب وأمثاله يجب أن يكون هادياً أمام أي باحث أو معني بالسياسة أو الاقتصاد أو الثقافة، فالفروق الثقافية بين الأمم هي التي تحدد المطلوب، والجدوى من تطبيق أي شيء أو نظرية أو فكرة، فالشعوب الأوروبية كما يقول الكاتب تختلف في ثقافاتها، ولها درجات مختلفة في سلم الاستبيانات التي صنعها الكاتب، ولذلك لا يمكن أن تفرض عليها أشياء متماثلة، وما كان لي أن أقول هذا لولا ما يحدث في الاتحاد الأوروبي من تفكك اليوم، ومن نظرة مختلفة ومتباينة لفكرة الاتحاد الأوروبي بعد زمن من إعلان هذا الاتحاد.
وكذلك الدول الأميركية، والدول العربية، مع أن الكاتب لم يأت على ذكر الدول العربية إلا في إشارات ليس لعداء، وإنما لأن الدول العربية كلها لم تستطع أن تحصل على نقطة من النقاط الموضوعة في الاستبيان، فهي خارج السباق، وخارج التقييم، وكل ما أشار إليه الكاتب أن المجتمع العربي يعتمد الثقافة الجمعية، وتغيب عنه الروح الفردية المبدعة، التي تشكل النقاط المضيئة في حياة الشعوب، والحياة الجمعية هذه هي حياة عشائرية وقبلية تخضع للانتماءات الأسرية في الأسرة الممتدة التي تعمل في كثير من الأحيان على عرقلة الإبداع الفردي، وتشلّ حركة المبدع لأنه يتحمل مادياً ومعنوياً إخفاقات المخفقين في الأسرة الممتدة، وكذلك الأمر مجتمعياً وعشائرياً والعرب هم الذين يباهون (وما أنا إلا من غزية) ولم يتجنَّ الكاتب في تقييمه عليهم، ولو أمعنا النظر في هذه الدراسة وأمثالها لعرفنا الأسباب وراء انقياد مجتمعاتنا العربية وراء العواطف الجمعية سلباً أو إيجاباً! فهل درس الساسة الجدوى من تطبيق رؤى قديمة أو جديدة؟ وهل عرف المعنيون جدوى كل حركة يقومون بها؟ أليس حياة الناس أكثر أهمية من الاقتصاد وغيره لنبذل جهداً في دراسة الجدوى؟
إن التفجر المعرفي الكبير يجتاح الكون ولن يقربنا كما يجب، لأننا لا نمتلك الأسس والسبل اللازمة لاستقباله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن