من دفتر الوطن

الحلم!

عصام داري :

يلمع نجم من بعيد يهدينا إلى دروب مزينة بالورود والرياحين تقودنا إلى جنة صغيرة حلمنا دائماً بوجودها، فإذا هي قريبة المنال، وكأنها مكافأة نهاية الخدمة، أو محطة يترجل منها الفارس بعد مشوار طويل مملوء بالصعاب لينال قسطاً من متعة خالصة، ونهاية طرق زرعت بالأشواك، والميناء الأخير بعد إبحار في محيطات تلفها الظلمات وتتلاعب فيها الأمواج المتلاطمة.
تلوح صبية آتية من ضباب وسراب في زمن اليباب، و.. فجأة تنبت الورود من قلب الصوان، وتسيل جداول عطر وأنهار عسل، وتشق الشمس جدران الغيوم وترسل شلالات نور وضوء ودفء فتعيد سيرة الحياة الأولى، وتذكرنا بأساطير القدماء التي نسجت تاريخ العشق عبر العصور.
لو تعرفون أن هناك آلاف قصص الحب التي لم يسجلها الرواة، ولم ترد في كتب العشاق، ولم يعرفها إلا أصحابها كانت أكثر روعة وجمالاً من قصص روميو وجولييت وقيس وليلى وجميل وبثينة، وغيرها من الحكايا التي صارت مضرب الأمثال.
وقصة الصبية المختبئة وراء سور الورد والرياحين، والمزروعة في بساتين البنفسج، الهاربة من أعشاش البلابل والعصافير بثوب فراشة ملكية، هي واحدة من تلك القصص التي لم يسمع بها إنسان ولا أدركها الجان.
تذكرت أني كتبت منذ زمن على بوابتها البعيدة كلمات تحاكي الشعر وليست شعرا، وتشبه النثر وليست نثراً، إنها نوع من بوح هامس في هدأة الليالي، لتصل رسالة مشفرة لا يقرؤها إلا عاشق محترف.
قلت: منذ بداية رحلتنا في هذه الحياة ونحن نبحث عن الحب ورغيف الخبز.. قد لا نموت جوعاً.. لكننا نموت عطشاً لمحبوبة انتظرناها منذ آلاف السنين.
تأخرت القطارات والسفن والطائرات.. وتأخر وصول صبية ساحرة ومسحورة، وجفت قلوبنا في المحطات والموانئ، وما زلنا بالانتظار، فهل تهطل السماء خيراً وخبزاً وحباً، وأزهاراً ملونة وقد بلغنا نهاية الرحلة؟.
هناك العشاق اجتمعوا في أول الطريق واحتلوا مقاعد المقاهي وصنعوا الحب وغرقوا في بحار السعادة، وكأنما كتب لآخرين السقوط في أول الطريق، والتوقف في أول مقهى صادفوه والنزول من القطار في أول محطة، وكم هو محظوظ الذي بلغ محطاته في مواعيدها.
محظوظ من قرأ رسالة قصيرة كتبتها تلك الصبية الوردية المتلفعة برداء حريري زاهي الألوان، سرقتها نسيمات المساء من يد الصبية، وألقتها في دربه، فهي نوع من ذلك البوح الذي تحدثنا عنه قصص الحب الخالدة.
تقول الحسناء مخاطبة عاشقاً مجهولاً: مثلك.. تتشكل على يديه الأنوثة وتكون مسؤولاً عن هندسة الخصر.. وعن تموج الشعر وعن مواسم الرمان.. يا رجلاً يعوض حبه كل الرجال، ويختصر كل الحكايات والقصائد.
محظوظ من عاش هذا الحلم الذي سردته ووضعت له السيناريو والحوار، فلو وجدت هذه الأنثى لأزهرت الصحارى والفيافي وتفجرت الينابيع من الصخر الصوان، إنه الحلم الذي انتظرته طوال عمري، ومازلت أؤمن بأنه سيتحقق، ولو بعد حين.
ألا يحق لمسافر عبر الزمن أن يحلم ولو حلمه الأخير؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن