الأولى

الوقت في الصين

بنت الأرض :

أول ما يلفت نظرك في الصين هو الدقة اللامتناهية للمواعيد والسلاسة التي يتمّ فيها هذا الأمر، إذ يكفي أن يقول بضعة أشخاص قبل المغادرة «اللقاء الثاني سيكون في الساعة المعينة كذا»، وفي تلك الساعة وبدقة متناهية تجد الجميع قد توافدوا إلى مكان اللقاء، إذ لا يتصل أحدهم لتثبيت الموعد ولا يتصل آخر لمحاولة تأجيله ولا يتصل ثالث ليعتذر عنه بحجة ظروف طارئة قاهرة. تشعر وكأن الجميع يقدسون المواعيد ويقدسون وقت الآخرين فلا يضيعون دقيقة منه وينظرون إلى أي تأخير مهما كان بسيطاً على أنه خطيئة لا تغتفر. احترام الوقت في الصين أمر مذهل بالفعل، والالتزام بالمواعيد دليل على أن الوقت ثمين جداً بالنسبة للجميع. كل الصين تأكل في وقت واحد ووقت الطعام لا يتجاوز الساعة الواحدة ومن ثمّ العودة إلى العمل. النوم المبكر والاستيقاظ المبكر هما السمة السائدة في الصين. والأهم من هذا أو ذاك، هو هذا العقل الجمعي الذي يتمتعون به جميعاً كلهم يذوبون إذ تشعر أن الجميع يفكرون بالمسألة المطروحة وأن الأشخاص كلهم يذوبون في سبيل تحقيق هذه المسألة، ولا يخطر ببال أحد أنه يريد أن يحقق مجداً شخصياً أو سمعة أو ثروة بل الشاغل الوحيد للجميع هو إنجاز المشروع من دون أسماء عليه إلا اسم الصين وتقدم الصين ومصلحة الصين.
بهذه العقلية وعلى هذه الأسس تمكنت الصين أن تنهض نهضة فريدة في العالم وأن تنافس أكثر بلدان العالم تقدماً خلال أربعين عاماً فقط. منذ أربعين عاماً لم تكن الصين على قائمة الدول المتقدمة على الإطلاق، وكل هذا التقدم وهذه النهضة الاقتصادية والصناعية والعلمية والفكرية قد تحققت في الصين خلال أربعين عاماً فقط. لقد وضع الصينيون خططاً إستراتيجية لثلاثين عاماً وعشرين عاماً، أي إنهم وضعوا الرؤى أين يريدون لبلدهم أن يكون بعد هذه الفترة وعادوا بالخطة إلى وقتهم الراهن وأسسوا لكل الخطوات والأعمال التي يجب أن تنجز كي يضمنوا تحقيق الرؤى التي طمحوا إليها وتخيلوها لبلدهم. وفي هذا المسار استعانوا بأفضل العقول والخبرات الصينية وغير الصينية وأولوا جلّ اهتمامهم للبحث والتطوير ووضعوا كل الإمكانات بين أيدي الباحثين والمطورين والمخترعين في مختلف المجالات. وركزوا على التعليم حيث إن التعليم ما قبل الجامعي في مدينة شنغهاي مثلاً يتصدر المرتبة الأولى في العالم منذ عدة سنوات. كما أن الجامعات الصينية اليوم تخّرج العلماء والباحثين والمخترعين الذين يسهمون بدورهم بشكل كبير في تقدم الصين وإنجازاتها العالمية.
حركة التقدم تنضوي على تقييم مستمرّ للأداء ومكافأة المتميزين جزء أساسي من العملية، كما أن رصد الرأي العام مهم جداً هنا ويشكل جزءاً من القرار الذي تتخذه القيادات المسؤولة. أي إن قرار اختيار المسؤولين يعتمد في جزء أساسي منه على نتائج رصد الرأي العام بحيث تكون الدولة والشعب أصحاب القرار في آن واحد. هنا نكتشف أهمية هذا النوع من الديمقراطية، التي وإن انطلقت حزباً واحداً فقد وجدت طرقاً مبتكرة لتمثيل الجميع، والأهم لتمثيل مصلحة الصين وضمان أفضل مستقبل لها. هنا بالذات تستطيع أن ترى أن تمثيليات الغرب بالديمقراطية والانتخابات ومسرحة الانتخابات بشكل اكتسب منظراً هوليودياً حقيقياً هدفه إرضاء غرائز الجماهير وليس تحقيق مصالحها الحيوية وضمان كرامتها الإنسانية وأفضل سبل لعيشها الرغيد. هنا في الصين نوع من الديمقراطية الحقيقية المعتمدة على أداء عقل جمعي عنوانه التخطيط والتميز وهدفه الأساسي رفعة الصين وتطورها. متى سوف يوقن العالم أن كل بلد يجب أن يكتشف أسلوبه الخاص به في الديمقراطية والتقدم، ولكن تجربة الصين بحكم العقل المؤسساتي الجمعي الحقيقي وإيلاء التخطيط والتميّز أهمية قصوى جديرة جداً أن تدرّس وأن تتم الاستفادة منها بشتى أنواع الطرق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن