ثقافة وفن

من ظرفاء الصحافة السورية

شمس الدين العجلاني :

فاضت القواميس والمعاجم بتعريف الظريف، فالرجل الظريف هو الشخص الكيِّس الحاذق حسن الهيئة والأمين والخفيف الظل والبليغ الذي يجيد الكلام دون أن يكذب، والظرف هو البراعة والكياسة وذكاء القلب، ورجل ذو ظرف هو الرجل البليغ الجيد الكلام، وظرُف الشَّخصُ كان حسن العبارة، لطيفًا، فكِهًا «يأنس الإنسان بالجلوس إلى رجل ذكيّ، والظريف هو شخص يشتهر بسرعة البديهة وبالقدرة على التعبير المثير للبهجة أو للترفيه عن النّفس. والظريف أيضاً اسم علم مذكر معناه، الذكيّ، الخفيف الظل، الحسن الهيئة، اللطيف العبارة، الفطن، الشديد البراعة. والظرفاء هم بهار المجتمع وزينته ولهم دائماً من حب الناس نصيب عظيم بوجودهم تتلطف الأجواء وبقصصهم وبنوادرهم تحلو المجالس وتتجمل وعنهم يتناقل الناس السير والأخبار ويقصون القصص والطرائف.

ظرفاء العرب
لكل أمة ظرفاؤها، وظرفاء العرب كثيرون اشتهروا عبر الأيام والسنين بطرائفهم الجميلة، وشاع صيت العديد من الشخصيات الظريفة في تاريخنا العربي وخاصة في العصرين الأموي والعباسي وروت صفحات التاريخ أخبارهم ونوادرهم وظرفهم، فكان هنالك ظرفاء المدينة، وظرفاء لبنان، وظرفاء مصر، وظرفاء السودان، وظرفاء الشام..
واشتهر الكثير من العرب العاملين في مجال الأدب والشعر والصحافة بظرفهم، فظهرت عبر التاريخ قصص وحكايا تروى عن الشعراء الظرفاء، والأدباء الظرفاء والصحفيين الظرفاء.. فكان قديماً الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وبديع الزمان الهمذاني، والفرزدق، وجرير، وأبو نواس، وبشار بن برد، وأبو العيناء محمد بن القاسم، وأبو دلامة.. ولا ننسى أشهر ظرفاء العرب جحا وأشعب.
عبر مسيرة الصحف والصحفيين يتعرض كلاهما لأحداث ووقائع قد تكون على حافة الخطر أو في وسطه وقد تكون هامشية وتضحك القارئ والصحفي معاً… والطريف هو ما يتعرض له الصحفي والصحيفة من طرافة وظرافة أثناء مسيرة العمل… أو هو ذاك الصحفي الظريف الساخر الذي جند قلمه لإضحاك القارئ وفي الوقت نفسه ينتقد أخطاء الأعيان من السادة النواب والوزراء وأصحاب الشأن..
ظرفاء الصحافة السورية

لدمشق والشام ظرفاؤها المشهورون الذين مرّوا بها وتركوا بصماتهم على حكاياها ونوادرها ولياليها، لأن أهل دمشق بطبعهم «يعشقون النكتة ويلتفتون حول من يتقنها، يولمون له الولائم السخية ويحيون السهرات والليالي الملاح ويجمعون الأهل والخلان للإصغاء إلى طرائفه ونوادره التي تبدأ عادة في المساء ولا تنتهي إلا عند منتصف الليل». حسب قول عبد الغني العطري في كتابه «دفاع عن الضحك».
لقد حفل تاريخ دمشق خاصة خلال القرن الماضي بالعديد من الشخصيات التي اصطلح على تسميتها ظرفاء الشام، ومنهم من عمل في مجال الصحافة فكانوا الساخرين في الصحافة، منهم الزعيم الوطني فخري البارودي الذي جعل منزله في حي القنوات ملتقى رجال الأدب والسياسة والظرف، وهو من أصدر جريدته الشعبية الساخرة التي سماها «حطّ بالخُرْج»، والصحفي الشهير سعيد الجزائري الذي كان رئيساً لعدد من الصحف والمجلات في دمشق خلال عقدي الأربعينيات والخمسينيات وما بعد، وشيخ الصحافة عبد الغني العطري، وعباس الحامض الصحفي العريق ونقيب الصحافة في دمشق، والمحامي الأديب نجاة قصاب حسن، والشاعر أحمد الجندي، والصحفي، نائب دمشق في المجلس النيابي، حبيب كحالة صاحب مجلة المضحك المبكي، والصحفي رشيد الملوحي، والصحفي سعيد التلاوي الذي يدعى (أبو ســمو)، والشاعر محمد الحريري. وإذا أخذنا جانب الظرافة والطرافة في صحفنا العربية وقلبنا بعض الصفحات نقرأ عن الصحف والصحفيين وظرافتهم وطرافتهم:

سليم سركيس مجموعة من الطرائف
من أطرف ما قيل عن الكاتب والصحفي الساخر سليم سركيس أنه «مجموعة من الطرائف».
هو سليم شاهين سركيس صحفي وأديب لبناني. ولد في بيروت في 11 أيلول 1869م، وتوفي 31 كانون الثاني 1926م، بدأ ينشر مقالاته في الخامسة عشرة من عمره في مجلة «الجنان» والتي كان يرأس تحريرها سليم بطرس البستاني، وبعد تخرجه في المدرسة الوطنية التحق بجريدة «لسان الحال» والتي كان يرأس تحريرها عمه «خليل سركيس»، وعمل بها ثماني سنوات، سافر إلى أوروبا بعدها وزار إيطاليا وفرنسا وأقام بإنكلترا زهاء عامين فأنشأ في لندن جريدة «رجع الصدى»، ثم سافر إلى باريس لينشئ جريدة «كشف النقاب» بمعاونة صديقه الأمير أمين مجيد أرسلان، ثم من باريس إلى الإسكندرية حيث حرر في جريدة «لسان العرب»، وأسس جريدة «المشير» في تشرين الثاني 1894م، ومن أطرف وأجرأ إصداراته كتابه «غرائب المكتوبجي» الذي أصدره في 25 نيسان سنة 1896م وأهداه إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني وكتب في الإهداء «مولاي يسوؤني أنني من جملة رعاياك»، فصدر عليه الحكم بالإعدام، فهرب إلى الولايات المتحدة الأميركية، واستقر في نيويورك حيث استكمل إصدار جريدة «المشير» هناك، وأصدر أيضاً جريدتي «الروي» و«البستان»، ثم عاد إلى مصر بعد إلغاء حكم الإعدام، وأصدر فيها مجلة «سركيس» حتى وفاته.
ومن الطرائف التي تروى عن سركيس أن: «سركيس كان يعتمر الطربوش في بيروت والقاهرة. ولم يخلعه ويلبس البرنيطة حين زار لندن. وهو أصرّ على اعتماره خلال حضوره جلسة البرلمان البريطاني أو مجلس العموم إثر انتخاب غلادستون لرئاسة الحكومة للمرة الثانية في عام 1893. فجأة انتصب أمامه مراقب المجلس العملاق الذي يزدان صدره بالذهب وتتدلى من عنقه السلاسل الذهبية وطلب منه نزع طربوشه احتراماً لقدسية الجلسة وأسوة بالإنكليز الذين نزعوا برانيطهم. رفض سركيس الطلب لأن «الطربوش لا تسري عليه أحكام البرنيطة». واثر انفضاض الجلسة تحلّق الصحفيون حول سركيس، وسألوه عن اسمه وهويته الوطنية وسرّ اصراره على اعتمار طربوشه، ثم نشروا خلاصة الحوار في صحفهم صبيحة اليوم التالي. الكاتب جان دايه».
أصدر سركيس مجلة نسائية اسمها «مرآة الحسناء». وكانت صفحاتها تضم العديد من الطرائف ابتداء من اسم صاحبها، فقد نسب سركيس المجلة إلى اسم وهمي هو مريم مزهر كصاحبة للمجلة ورئيسة تحريرها.
وذات مرة أراد سركيس قبض الحوالات المالية للاشتراك بالمجلة من مؤسسة البوسطة «البريد» فأبلغه الموظف المسؤول، أن الحوالات باسم السيدة مزهر وعليها هي المجيء لقبضها. وعندما قال له سركيس إن السيدة مزهر مشغولة بتحضير العدد الجديد للمجلة، ويتعذر عليها المجيء، طلب منه الموظف أن يأتي بتوكيل منها.
وهكذا، توجّه سركيس إلى المكتب وخطّ توكيلاً لنفسه موقّعاً باسم مريم مزهر وممهوراً بخاتم المجلة الرسمي، وعاد إلى البوسطة، ليقبض الاشتراكات، ولينقل تحية صاحبة المجلة لمدير «البوسطة».
وذات مرة شن سركيس حملات على الحشاشين ومقاهي الحشيش، فرّد عليه حشّاش من القاهرة بمقال طويل نشره في «مجلة سركيس» بتاريخ 15 كانون الأول 1908م، إذ طرح عليه السؤال الوجيه الآتي: «لماذا يا من تدعي العفرتة وتتباهى بالتجسس والشيطنة تغفل وشركاؤك عما يجري في أنحاء المدينة من أنواع الفسق والفجور وما ينهاه الشرع والمنشور وكل موبقة لها ألف لائحة وهي تؤدي وظيفتها جهاداً ويجري مفعولها ليلاً نهاراً؟ وقصد الحشاش بذلك مراكز لعبة القمار التي يحتوي شارع الأزبكية على نصف دزينة منها. وبما أن القمار بنظر الحشاش أكثر ضرراً من الإدمان، فقد ختم نقده بهذا البيت:
لا تقطعن ذنب الأفعى وتتركها
إن كنت شهماً فاتبع رأسها الذنبا
ومن مخترعات سركيس الصحفية باب «يغيظني» الذي قلّده فيه زملاؤه وبخاصة في بيروت. وهذا الباب الدائم المخصص للقراء، دخله نصر اللـه الياس سمعان من الإسكندرية حيث قال في عدد أول أيار 1908: يغيظني من أقول له نهارك سعيد فيقول لي بونجور…
سامي الشمعة والرجل الغزال:
سامي الشمعة صحفي سوري متميز ولد بدمشق عام 1910م وتوفي بدمشق عام 1950م، تلقى علومه الابتدائية والإعدادية في مدارسها، وتابع دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت. راسل ونشر في جريدة صوت الأحرار اللبنانية، وفي عام 1932 أصدر جريدته اليومية في دمشق باسم (الدستور).
في عام 1934م أصدر جريدة يومية باسم (السياسة)، وفي أواخر عام 1946م أصدر جريدة (آخر دقيقة)، وفي عام 1947م أصدر مجلة (عصى الجنة) وعام 1953م أصدر مجلة (الجامعة).
عمل الشمعة سكرتيراً لتحرير جريدة (الأيام) لصاحبها نصوح بابيل، ورئيسا لتحرير جريدة (القبس) لصاحبها نجيب الريس عام 1941م، وكان خلال الحرب العالمية الثانية مديراً لأول إذاعة في سورية.
عرف الشمعة بدمشق بأنه الرجل الأنيق، المحب للحياة، فكان مسرفاً متلافاً، وكان كما يقول المثل الشعبي «ايده مبخوشه» فلو أعطي أموال الدنيا لصرفها في أيام معدودة، ولم يدخر شيئاً للغد… اشتهر الشمعة بأسلوبه الصحفي المميز، وأيضاً اشتهر بجرأة في الكتابة، حتى قيل عنه: إنه يغزو جمهور القراء بطريقة ذكية وبارعة فيها الكثير من التشويق والإثارة.. ترك الشمعة بصمات واضحة في تاريخ الصحافة السورية برغم أنه لم يعش طويلاً حيث توفي عن عمر يناهز الأربعين عاماً.
من المواضيع الساخرة وذات طابع الإثارة التي اخترعها الشمعة حكاية (الإنسان الغزال)؟؟ والتي يعرفها جيلنا جيداً وكنا ونحن صغاراً نتناقلها بكل دهشة واستغراب!! وتروي حكاية الشمعة أنه كان هنالك صبي أصم وأبكم من إحدى القرى القريبة من دمشق، يقضي يومه متشرداً في أزقتها وكرومها وبساتينها، فإذا جن الليل لجأ إلى مخفر الدرك فيها أو إلى ناحية من نواحيها ونام، فإذا جاء الصباح استأنف الصبي حياة التشرد والبؤس والبحث عن لقمة يأكلها.. وأراد الشمعة جعل هذا الصبي صاحب حكاية مثيرة تثير الضجة بين الناس، فأطلق عليه اسم (الإنسان الغزال) وكتب عنه أنه كان يمشي على أربع كما يمشي الغزال، وأنه تربى في كنف غزالة وعاش معها وشرب من حليبها ونشأ في صحبتها حتى اكتسب طابع الغزال ومشيته وسرعة جريه. ونشر الشمعة قصة الإنسان الغزال في جريدته (آخر دقيقة)، ولم تكد تصدر في الأسواق حتى أصبحت حكاية الإنسان الغزال على كل شفة ولسان، وتناقلتها وكالات الأنباء العالمية في ذلك الحين، ووصل وفد من الولايات المتحدة إلى دمشق ليكتب تحقيقاً صحفياً عن الإنسان الغزال وينشر حكايته في كبريات الصحف الأميركية، وضجت دمشق بقصة (الإنسان الغزال)، وجاء من أخبر سامي الشمعة بأن الوفد الصحفي الأميركي في طريقه إليه ليتحدث معه عن الإنسان الغزال ويطلب منه المساعدة في معرفة التفاصيل عن هذا المخلوق الغريب، وليلتقط الوفد الصور له، وهنا كان لا بد للشمعة من «تشميع الخيط» والهروب من مكتب الجريدة، فلما دخل الوفد من باب الجريدة إلى مكتب صاحبها، كان سامي الشمعة قد غادر مكتب الجريدة في دمشق وأقسم ألا يعود إليها إلا بعد أن يغادر الوفد الصحفي الأميركي دمشق عائداً إلى بلاده…
الظَّرافُة والطرافة والكياسة، النكتة والهزل والفكاهة لأصحاب القلم، كانت تسرح وتمرح في بلادنا في تلك الأيام السابقات، ويبدو أن البسمة تراجعت وجفت منابع السعادة!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن