ثقافة وفن

من موظف في معمل معكرونة.. إلى مؤسس للدراما والمسرح … نهاد قلعي.. أحبّ الفن فسرى هذا الحب في عروقه وأزهر بنفسجاً وريحاناً

وائل العدس :

من منا لم يسمع بالمقولة الشهيرة: «إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا يجب علينا أن نعرف ماذا في البرازيل». طبعاً المقولة ليست لشكسبير أو أرسطو إنما مقولة فنان الكوميديا نهاد قلعي في شخصية «حسني البورظان»، تلك الشخصية التي عاشت معنا في طفولتنا ودخلت بيوتنا كما دخلت قلوبنا وكبرنا معها ولا تزال الأجيال تتابع مسلسلاته وأفلامه مع ثنائيه دريد لحام.
يذكر الجمهور العربي جيداً ملامح الفنان السوري نهاد قلعي الذي ما زالت شخصيته المعروفة «حسني البورظان» حاضرة في الأذهان، كما يذكر مقالبه المضحكة مع قرينه دريد لحام المشهور بـ«غوار الطوشة»، لكن من يذكر أن قلعي هو أول مدير لـ«المسرح القومي» السوري أواخر الخمسينيات، وأحد الذين أسسوا للحركة المسرحية العربية الحديثة؟.
أحبّ الفن فسرى هذا الحب في عروقه وأزهر بنفسجاً وريحاناً، وضحّى من أجله بسنوات عمره التي كرسها له.
22 عاماً مرت على وفاة الفنان الكبير الذي رحل عن خمسة وستين عاماً تاركاً إرثاً ثقافياً سيخلده مدى الدهر.

سيرة حياته
ولد نهاد قلعي في دمشق في حي ساروجة – حارة قولي في صيف 1928، واسمه الكامل حسب الهوية الشخصية نهاد قلعي الخربوطلي، والده محمد رفقي ووالدته بدرية العطري، انتسب إلى مدرسة البخاري القريبة من دار الأسرة وكانت هذه المدرسة تعدّ طلابها إعداداً علمياً وأخلاقياً عالياً، تؤهلهم لإلقاء الخطب والقصائد في المناسبات.
أحبّ التمثيل منذ نعومة أظفاره وكان شديد الإعجاب بالفنان عبد اللطيف فتحي، وبعد أن أنهى دراسته الابتدائية انتسب إلى مدرسة التجهيز الأولى وفيها تتلمذ على يدي الفنان عبد الوهاب أبو السعود الذي كان يدرب الطلاب على أداء أدوارهم في التمثيليات التي تقدم في نهاية السنة الدراسية، وكان نهاد يؤدي فيها أدواره بنجاح كبير، عندما أكمل دراسته الثانوية كان أبوه قد أحيل إلى التقاعد فاضطر لترك المدرسة والعمل، ولأنه كان مولعاً بالتمثيل بادر إلى معهد التمثيل بالقاهرة للانتساب إليه بتشجيع من خاله الفنان توفيق العطري، فباعت الأسرة ما يلزم لتأمين سفر ابنها إلا أن المبلغ نشل منه وكانت كارثة كبرى بالنسبة إليه.
بعد ذلك اضطر للعمل مراقباً في معمل للمعكرونة في حي الميدان، ثم ضارباً على الآلة الكاتبة في الجامعة ثم انتقل بعدها إلى وزارة الدفاع، ، وعمل مساعداً لمخلص جمركي طوال خمس سنوات، ثم عمل لحسابه الخاص، وظلّ يمارس عمله هذا إلى أن بدأ حياته الفنية.

بداياته الفنية
كانت الخطوة المهمة في حياة نهاد قلعي الفنية سنة 1946 مع نادي «البرق» الكائن في ساحة المرجة وفي هذا النادي شارك بتقديم مسرحية عنوانها «جيشنا السوري» وفي عام 1954 قام بتأسيس (النادي الشرقي) وكانت أولى المسرحيات التي قدمها تحمل عنوان «الأستاذ كلينوف» وأخذ فيها دوراً كوميدياً، ثم قدم مسرحية «زنوبيا» التي ألحقت بالنادي كارثة مادية كبيرة ظلّ بعدها سنوات عديدة يسدد ما تراكم عليه من ديون بسببها.
في عام 1957 قدم النادي في القاهرة مسرحية «لولا النساء» ولقيت إقبالاً جماهيرياً كبيراً ونجاحاً باهراً.
وفي شباط من عام 1959 قدم النادي أيضاً على مسرح الأزبكية بالقاهرة مسرحية بعنوان «ثمن الحرية».
وفي العام ذاته كلفته وزارة الثقافة والإرشاد القومي تأسيس مسرح قومي في سورية.

مع التلفزيون
مع افتتاح التلفزيون العربي السوري في 23 تموز 1960 بدأ قلعي يتألق حيث التقى الفنان الكبير دريد لحام واستمرت مسيرتهما الفنية ستة عشر عاماً إذ قدم برنامجاً منوعاً اسمه «الأسرة السعيدة» وشاركه في التقديم لحام ومحمود جبر، وغازي الخالدي وتاج باتوك وقد شجع مدير التلفزيون آنذاك الدكتور صباح قباني دريد ونهاد على تأليف ثنائي فني وتوقع لهما النجاح، وهذا ما حدث بالفعل، ثم تحول هذا البرنامج إلى برنامج آخر باسم «سهرة دمشق» الذي انضم إليه الفنان رفيق سبيعي وشكل برنامج « سهرة دمشق » أول تعاون رسمي بين الفنانين القديرين «دريد ونهاد» ولقي نجاحاً متميزاً.
ومن أهم الأعمال المتميزة لهما: «عقد اللؤلؤ» ثم «مقالب غوار» و«حمام الهنا» و«صح النوم» وهذه الأعمال لقيت إعجاباً جماهيرياً وما زلنا نتفرج بشغف إلى بعض الحلقات التي تعرض على شاشة التلفاز بين الفينة والأخرى.
وفي السينما اشتركا في واحد وعشرين فيلماً منها «عقد اللؤلؤ» و«لقاء في تدمر» و«الشريدان» و«المليونيرة والنصّابين الثلاثة» و«خياط للسيدات» و«الرجل المناسب» و«مسك وعنبر» وفيلم «صح النوم» عام 1975.
في عام 1974 قدما مسرحية «ضيعة تشرين» من تأليف محمد الماغوط وكانت من أجمل الأعمال المشتركة بين الفنانين الكبيرين وفي عام 1976 قدما مسرحية «غربة».

كل الرضى
في آخر تصريحاته قبل وفاته بأيام قليلة يقول قلعي: «أعيش حالياً جوّاً من الإحباط. لكنني لو عدت إلى بداياتي، وقيد لي أن أختار حياة جديدة، لما اخترت غير الطريق التي سلكتها، رغم مرارتها ووعورتها في أحيان كثيرة. باستطاعتي القول إنني لست نادماً على شيء».
وأضاف: أنا راض كل الرضى، لأنني بذلت كل جهدي، وقدمت كل ما استطعت، ولا أظن أنني فشلت، قد لا أكون حققت النجاح الذي أطمح إليه، ويطمح إليه كل مبدع في قرارة نفسه، لكن إنجازاتي تتناسب مع الإمكانات التي أتيحت لي على أرض الواقع.

حادثة طريفة
يردد نهاد قلعي حادثة طريفة يؤكد أنها جديرة بأن تروى فيقول: طلبت منّي وزارة الثقافة ذات يوم عرض مسرحية «البورجوازي النبيل»، تكريماً للطلبة الذين حصلوا على مراتب عليا في جميع الكليات السورية، وذلك في إطار الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة وصول ناظم القدسي إلى سدّة الرئاسة واستلام خالد العظم مقاليد رئاسة الوزراء. وفي اليوم المحدد، قبل ساعة من موعد بدء العرض، توجهت إلى «مسرح القباني» للتأكد من أن مسؤولة الملابس جهزت جميع الملابس والاكسسوارات المطلوبة للمسرحية. كنت متوتراً، مضطرباً، والرهبة تملؤني.
وعندما بدأت أرتدي ملابسي، اكتشفت أنها ناقصة، فهرعت أبحث عنها في غرف الزملاء لكن دون جدوى. وما كان مني إلا أن ركلت الباب بقدمي لشدة الغضب، ولم يكن يكسوها سوى نعل خفيف. فانكسر الباب، وانكسرت قدمي. وتم احضار الأطباء على الفور، فقرروا بالإجماع منعي من الحركة. وجدت نفسي في حيرة من أمري، لكني قرّرت أن أقدم المسرحية رغم كل شيء.

تخليداً لذكراه
أقامت جمعية أصدقاء دمشق بالتعاون مع مكتبة الأسد الوطنية مساء الأحد حفلاً تكريميا للفنان الكبير نهاد قلعي بمناسبة مرور اثنين وعشرين عاماً على رحيله تقديراً لمسيرته الفنية الغنية ولأعماله التي ساهمت في إرساء دعائم الدراما السورية وانتشارها.
وتخلل الاحتفال عرض فيلم وثائقي قصير للمخرج مصطفى بروقاي استعرض من خلال خمس وثلاثين دقيقة أهم المنعطفات الفنية في حياة الراحل قلعي ابتداء من افتتاح التلفزيون العربي السوري وعلاقته به وصولاً إلى أواخر حياته في المسرح والسينما والأعمال الدرامية التي قام بتأليفها والتمثيل فيها مع الفنان الكبير دريد لحام كصح النوم ومقالب غوار وحمام الهنا وغيرها.
كما تضمن الفيلم بعضاً من شهادات الفنانين الذين رافقوا الراحل قلعي خلال مسيرته الفنية على مدى سنوات عديدة مثل الفنان لحام والمخرج خلدون المالح والفنان الراحل ياسين بقوش وفنان الشعب رفيق سبيعي الذين تحدثوا عن علاقاتهم بالفنان الراحل وبداياتهم الفنية المشتركة والصعاب التي كانوا يواجهونها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن