ثقافة وفن

مختارات أدونيسية بنكهة ناقدة … عضيمة يقدم أدونيس للقارئ وهو يدرك المعضلة

إسماعيل مروة :

قرأت أدونيس في مراحل عديدة من نشأتي الأدبية والدراسية، وقد اتخذت منه مواقف متناقضة ومتباينة في كثير من مفاصل الدراسة، وغالباً ما كنت أسبغ عليه صفات المرحلة التي كنت أمرّ بها، وبقي الأمر كذلك حتى وصلت إلى مرحلة قرائية متقدمة، جعلتني أفهم أدونيس، تلك هي مرحلة القراءة الممتعة، بعد أن نهلت من المكتبة كتباً عديدة ذات صلة بالمعرفة الصوفية وما يدور حولها، حتى كانت اللقاءات مع أدونيس التي امتدت من 2009 وحتى 2011، توجت بحديث كان له الفضل فيما أضافه إليّ من معلومات وصفات لم تكن قبل هذا الحوار الذي اكتشفت فيه الصورة الأدونيسية الأدبية والشخصية، فقد كنت أمام كاتب كبير كل صفات التواضع والحب والطفولة في شخصه، وأمام أديب ملتصق ببيئته وتراثه كما لم يلتصق أي صاحب تيار، ولكن بقراءة واعية ناقدة.. وبعدها بقي أدونيس لصيقاً بكتبي وأوراقي وذاكرتي، واكتشفت أهمية معرفتي من متابعة أساتذتي الذين يحبون أو يخالفون أدونيس لكل التفاصيل، واكتشفت أنني قربت الشاعر العالمي الغامض- كما يزعم- إلى القارئ العربي، ولم ألجأ إلى المانشيتات المعروفة… ترددت كثيراً في الكتابة عن هذا الأمر حتى اطلعت على كتاب صديقي عن بعد محمد عضيمة (ديوان الشعر العربي الجديد- عندما اختار من شعر أدونيس) فوجدته عبر عما ترددت عن التعبير عنه.

وجدان ونقد في مقدمة

عندما يصدر كتاب لمحمد عضيمة، سواء كان مصنفاً أو مترجماً أعرف مسبقاً أنني أمام وجبة دسمة من النقد في تقديمه، وهذا كان عندما قرأت له نصوصاً مترجمة عن اليابانية، وكذلك الأمر في كتبه الخمسة السابقة من ديوان الشعر العربي الجديد، وكلها من إصدارات دار التكوين بدمشق، وحين صدر كتابه السادس المخصص لشعر أدونيس، كنت على شوق بسبب علاقتي بأدونيس وفكره وصوفيته وشعره، وبالفعل فإن عضيمة مهّد لمختاراته هذه بدراسة على شكل رسالة قدمها للقارئ في ستين صفحة، وأشيد بداية بالأسلوب الذي اختاره، أسلوب الرسالة لما يحمل من حميمية للقارئ، وتأكد لي حسن الاختيار عندما قرأت المقدمة في وقت قصير للغاية، فقد وجدت نفسي من صفحة إلى أخرى، وفي كل صفحة أجد نفسي الكاتب لهذه المقدمة، وباختيار هذا الأسلوب ابتعد عضيمة عن أسلوب الأستذة النقدية التي قد تنفر القارئ، الذي يجد الأساتذة يحيطون به من كل جانب، فقد كان يتودد، وبين صفحة وأخرى يخاطب القارئ ليقدم له رؤية نقدية دسمة للغاية، ولكن ضمن مشاركة بارعة تجعل القارئ يطرح تساؤلات كثيرة عن رأيه بأدونيس والحداثة والغموض والفلسفة والتصوف والتراث وعضيمة نفسه!
«أذكر أنني أول ما سمعت باسمه كشاعر حديث، كان ذلك نقداً على شكل شتيمة له وللشعر الحديث.. وكان أدونيس آنذاك اسماً آخذاً في السطوع.. هكذا كان يقف وراء ذلك السطوع، بالدرجة الأولى، ليس عشاق شعره وجمهوره الشعري، كما ينبغي أن يكون عادة، بل العكس تماماً، أولئك الذين كانوا ضد الشعر الحديث جملة وتفصيلاً، ويريدون النيل منه ومن شرعيته».
ما من قارئ للأدب أو دارس إلا وقف الموقف نفسه، فالشتيمة والانتقاص أول ما يظهر للقارئ النابت من بيئة ثقافية أحادية ومغلقة، ومحدودة المعرفة بالحداثة وضرورتها وأخطار غيابها على الصعد كافة وأولها السياسية!

من الوجدان إلى النقد
يتسلل عضيمة بمهارة من حديث وجداني، قد لايروق حتى لأدونيس، إلى الرأي النقدي الذي ينصف أدونيس أولاً، وينصف الحداثة التي حملت سمة أدونيس في تلافيفها، ففي الرأي السابق نجد الثقافة السائدة الجاهلة، القائمة على شتم ما يجهله المرء، والجهل بأدونيس وأدبه جعله في موقف الذي تقع عليه الشتائم، وثمة آراء نقدية عديدة تدخل بتسلل إلى النص ببراعة:
• الموقف من الحداثة.
• ارتباط الحداثة بأدونيس الشخص والأديب.
• الموقف من الشخص وما يمثله، وهو واحد من هذا التيار وليس التيار كله.
• الإخلاص للمذهب، فأدونيس أخلص للحداثة بعد أن خرج من التراث، لذلك ناله كل ما وجه إلى الحداثة.
• كان غرض أدونيس من حداثويته مجتمعه، لذلك رجّه وواجهه، وقدمه، لذلك كان الأكثر تعرضاً للانتقاد، وكأن أدونيس والحداثة في حالة تطابق!
ترى لو أدرك ناقدنا ومثقفنا أهمية الحداثة هل اقتصر دورها على الهدم الذي تخيله؟ لماذا لم تكن الحداثة كما في الغرب حركة موازية للتراث والكلاسيكية إلى اليوم؟ هل يشترط أن تنشب حرب بين التقليد والحداثة؟ والسؤال الأهم الذي أوحى به عضيمة في مكان آخر بشكل موارب: لو فهمنا الحداثة هل وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم؟!
الحداثة والتراث والضدية

أخذت وقتاً طويلاً وقراءات غير محدودة، ومعارف متعددة المشارب حتى رأيت أن الحداثة تغني التراث، ولا تمثل ضداً له، فهي في الرأي الأدونيسي تعيد قراءة التراث وتخلصه من الشوائب، وكما أشرت فعلاقتي بأدونيس أثبتت لي أن طيرانه العالمي لم يخرجه عن صوفيته وعلاقته بتراثه الذي نبت منه، وقد بذل التراثيون التقليديون، ولا أوافق عضيمة على الاكتفاء بالإسلاميين وحدهم كل جهودهم لمحاربة الحداثة.. معارك طاحنة لم ترق فيها قطرة دم واحدة، لكن بالمقابل لم تبق كلمة قاسية، إلا واستخدمت في الدفاع وفي الهجوم من قبل الطرفين.. مهما فعلوا.. فإنهم لن يستطيعوا منعهم من كتابة الشعر الحديث بجميع تنويعاته.. حتى أولادهم وبناتهم لن يكتبوا الشعر إلا بهذه الطريقة..
فالتأكيد على أن سيرورة الحياة تقتضي أن يدلف الناس إلى الحداثة، وبأي شكل كان، وقد تتسلل الحداثة إلى بيوتهم وأبنائهم، وفي هذا إشارة إلى ضرورة التعامل مع الحداثة على أنها ظاهرة تقف إلى جنب التراث.

الاختيار وأدونيس
قلت لم أكن لأقف عند هذه المختارات لولا المقدمة التي كتبها عضيمة، وقد جاءت مختاراته من أدونيس قائمة على المقطع المستخلص، وهو بذلك خالف ما جاء به في المقدمة من أن النص الحديث أو الحداثي فيه فكرة وفلسفة وعمق، فكيف تهيأ له أن يجترئ على النص الحداثي ليختزله في كلمتين؟ وهل يناسب الشعر الحداثي أن يتم تحديد بيت قصيد فيه، أو يتم تحديد مقطع القصيد.
أظن أن ذائقة عضيمة تحكمت فيه أكثر من اللازم، وكان من المفترض أن يختار قصائد تامة، أو مقاطع متكاملة على أقل تقدير، وذلك في إطار محافظته على خصوصية النص الحداثي، إضافة إلى أن عضيمة لم يحدد المجموعة التي أخذ منها مقطع القصيد، ما يرهق القارئ المتابع في البحث عن النص الأصلي الكامل.
أفلن يعلو صوت الله في ثورة مسروق
على سارقه
بدلاً من مئذنة؟
أضمر الآن هوىً حراً وأدعو
ذلك الشاعر في عزلته
أن يعلنه
هذا المقطع ينتمي إلى نص إشكالي، من المفترض أن نقرأ النص كاملاً، وربما كانت قراءة النص كاملاً قادرة على إخراج النص من زاوية وضعه فيها عضيمة، وقد تكون طارئة!
لأب مات أخضراً كالسحابة
وعلى وجهه شراع
أنحني، ولطفل يباع
كي يصلي وكي يمسح الأحذية
كلنا في بلادي نصلي كلنا نمسح الأحذية
نص آخر نقدي لا يساعد اختيار المقطع على الوصول إلى جوهره الذي أراده أدونيس، ألم يكن ممكناً أن يحال القارئ إلى النص كاملاً، وفي ديوانه على الأقل؟
ولم أكن لأقف عند هذه الملاحظة لولا أنها تتعارض مع مفهوم الشعر الحداثي الذي أقره عضيمة في مقدمته المهمة. (ديوان الشعر العربي الجديد- عندما اختار من شعر أدونيس) كتاب سادس في سلسلة اختيارات محمد عضيمة تعطي صورة عنه وعن اختياراته شاعراً وناقداً، يقدم فكرة عن أدونيس وشعره للقارئ العام، ولكن لا أظن أنها تقدم للمهتم زيادة على ما يعرفه عن أدوينس وحداثته وشعره.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن