ثقافة وفن

«العهد الضائع» وعلم الآثار

د. علي القيم :

في عام 2003م، صدر في لندن كتاب «العهد الضائع» للكاتب اليهودي «ديفيد رول» المتخصص في الكتابة عن تاريخ اليهود والكتب التوراتية، ومحاولة إعادة تفسير التاريخ التوراتي، وفق ما تدعيه «الكشوفات الأثرية» التي تمت في القرن الماضي، وقد أعيدت طباعة هذا الكتاب مرات عدة، ولاقى رواجاً كبيراً ودعاية صهيونية لا حدود لها، لأن مؤلفه يحاول إثبات أن أحداث قصة الخلق، كما وردت في «سفر التكوين» أول كتب التوراة، هي أحداث تاريخية حقيقية، كما أنه يحدد مكاناً آخر بجنة عدن، التي خرج منها الإنسان الأول غير جنوب الجزيرة العربية التي ساد الاعتقاد بها سابقاً، وبناء على «نص توراتي» جاء فيه أن جنة عدن يخرج منها أربعة أنهار، وتقع في وادٍ كبير شمال غربي إيران وأذربيجان وكردستان.
يقوم «ديفيد رول» بدراسته على أساس أن كتب التوراة مصدر أساسي للتاريخ يفوق المصادر الأخرى، بما في ذلك الكشوفات والتنقيبات الأثرية، التي لم تتوصل إلى ما يثبت مدونات التوراة في جميع ما كشف في بلاد الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل، ومع ذلك يقوم «رول» بترتيب الأحداث القديمة وفق ما جاء في الكتب التوراتية ويرفض ما توصل إليه علماء الآثار، وبناء على هذا فهو يحدد زمن الخلق منذ ستة آلاف عام مضت، حيث يقوم التقويم التوراتي على أساس من جمع أعمار الشخصيات التي ورد ذكرها بكتب العهد القديم، والذي على أساسه تم تحديد خلق سيدنا آدم في الساعة التاسعة من 26 تشرين الأول عام 4004 قبل الميلاد، وكما هو معروف، فإن «التوراة» كتاب ديني وليس مصدراً للتاريخ، وإن ورد فيه بعض القصص التي لها أصل تاريخي، وإن قصة الخلق لا تعتبر واقعة تاريخية يمكن للباحثين تحديد مكان وزمان لها، وإنما هي رواية ذات طبيعة دينية، رمزية يتم تفسيرها على أساس من الاعتقادات الدينية والفلسفية، وعمليات الخلق تسبق التواريخ التوراتية بمئات الآلاف من السنين.
النقطة الثانية التي يحاول مؤلف الكتاب إثباتها هي أن سلالة نوح (عليه السلام) هي التي أنتجت الحضارة السومرية في جنوب بلاد الرافدين، ثم هاجر بعضها من هناك عن طريق الخليج والبحر الأحمر، ووصلوا إلى مصر قبل عصر الأسرات، وسيطروا على شعب مصر، وأصبحوا هم الفراعنة، ويصل المؤلف عن هذا الطريق إلى القول إن القصص التاريخية مثل قصص داود وسليمان عليهما السلام اللذين كوّنا إمبراطورية تمتد حدودها من النيل إلى الفرات، ويرى أن سبب عدم عثور الآثار على أدلة تثبت صحة هذه القصص تعود إلى خطأ في تحديد الأزمنة التاريخية، ويرى أن برج بابل لم يكن موقعه في بلاد الرافدين، كما ساد الاعتقاد، وإنما في جزيرة البحرين، في الخليج العربي، ولم يستند في نظريته هذه إلى أي أدلة أثرية، علماً بأن «المدرسة التوراتية» في علم الآثار لم تترك وسيلة إلا وحاولتها لإثبات مرويات «التوراة» على أرض الواقع من خلال حفريات أثرية استمرت أكثر من /100/ سنة.
وبحسب ما ورد في القصة التوراتية، فإن أبناء نوح، وصلوا إلى أرض شينار في بابل بقيادة نمرود، وهناك قاموا ببناء برج عال، إلا أن الرب عاقب البشر بسبب هذا البناء، الذي كان يحاول الصعود إلى عنان السماء، ففرّق بينهما وجعل لغاتهم تتعدد وتختلف فلا يعود بعضهم يفهم كلام البعض الآخر، فقد جاء في «سفر التكوين» أن أولاد نوح الذين عاشوا بعد الطوفان، كانوا ثلاثة: (سام وحام ويافث) وقد تفرّق أبناء نوح بعد الطوفان وكانت الأرض كلها لساناً واحداً، ولغة واحدة، وحدث في ارتحالهم شرقاً، أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسكنوا هناك، وقالوا هلمّ نصنع لبناً ونشويه شيّا، فكان لهم اللبن مكان الحجر، وكان لهم الحجر مكان الطين، وقالوا هلمّ نبني لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء… فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما، وقال الرب هوذا شعب واحد، ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل، هلمّ ننزل ونبلبل لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض، فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دعي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل كل الأرض، ومن هناك بددهم الرب على وجه كل الأرض.
وكان هذا «العهد الضائع» الذي يحاول «ديفيد رول» إعادة تفسيره وفق مرويات لم يثبت علم الآثار وجودها على أرض الواقع، رغم محاولات كثيرة الهدف منها إشاعة الاعتقاد بأن يهود العصر الحالي هم من سلالة من يرث الأرض، وهذه تخرصات دحضها العلم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن