ثقافة وفن

جحا يعود، وشهريار ملّ الحكاية

د. علي القيم :

هناك حكاية قصيرة تقول إن أحد الخلفاء سأل رجلاً: هل تتمنى لو كنت تملك مليون دينار، ولكن مقابل ذلك يجب أن تكون أحمق، وبلا عقل! فقال الرجل: كلا! أخاف أن يجني عليّ حمقي، فأفقد المليون دينار، وأخسر عقلي، ولا يبقى لي سوى حمقي..
وهكذا أنقذ الرجل عقله، ولم يجن حمقه على ماله.. أما العرب في بلدان عديدة، أعطاهم الله الأموال والثروات الطائلة، وبدلاً من المليون، مليارات من الدولارات، ولكن لم يحسنوا الاستفادة من هذه الثروات والمليارات، وحمقهم جنى على أموالهم، وذهبت ثرواتهم هدراً وغباء، ولم يبق منها سوى حمقهم، والقادم أعظم.

منذ أكثر من عشرين سنة، صدر في الولايات المتحدة الأميركية، كتاب مهم اسمه «اللوبي» للباحث الأميركي «إدوارد تيفنان» وقد أثار هذا الكتاب الجدل في شتى أرجاء العالم، لأنه فضح دور القوة السياسية اليهودية في السياسة الخارجية الأميركية، وبيّن بالبراهين والحقائق والتحليلات كيف تقوم الصهيونية بالضغط على واشنطن، لتحقيق ما تريده إسرائيل في كل مرحلة حلم جديد لرئيس أميركي، فما إن تقترب المرحلة الثانية من حكم الرئيس، حتى يستعد «اللوبي» الصهيوني، ويقوم بالإعداد والتخطيط لما تريده إسرائيل من الرئيس القادم، فتضع النظريات والمخططات المدروسة، المتماسكة للإدارة الجديدة، ما يكسبها أهمية متزايدة في كل مرحلة من المراحل، واللافت تلك الصياغة الاستراتيجية الجديدة، التي تلائم الإدارة الأميركية الجديدة، ومستجدات الشرق الأوسط.

شخصية جحا، عادت بفضل «الربيع العربي» لتلقي بفلسفتها على الأحداث المريرة والقاسية، التي ألمت بشتى أرجاء الوطن العربي.. عادت تبحث عن حل لما حدث من قتل ودمار وتهجير وإرهاب.. عادت لتقول: إن جحا أضاع خاتمه في بيته، ولكنه خرج يبحث عنه في الشوارع والحارات.. فسأله جيرانه عما تبحث، فقال: أضعت خاتمي في بيتي، حيث الكهرباء مقطوعة فخرجت أبحث عنه في الشوارع التي يوجد فيها كهرباء.. وهكذا صار العرب الذين ابتلوا بالربيع العربي، يبحثون عن الحل لأزمتهم في الشوارع الخلفية، ونسوا أنهم ضيّعوا خواتمهم في بيوتهم..

في الليلة الثانية بعد الألف، وبعد أن حكت شهرزاد لياليها الطويلة، ملّ الملك شهريار، وقال: ياشهرزاد لقد سئمت من هذه الحكايات، التي تحلّق في الخيال، وأبعدتنا عن الواقع، فهل يمكنك أن تحدثيني عن النهارات العربية؟! ولم يكن أمام شهرزاد إلا الطاعة وتنفيذ الأمر، فقالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن النهارات العربية أصبحت في زمن «الفوضى الخلاقة»، و«الربيع العربي» في حال لا تحسد عليه.. لقد اختلط الحابل بالنابل، وانتشرت الفوضى، وعم الفساد، وتداخلت الأعمال بالنيات، والسجون بالرايات، والاقتصاد بالتعسف، ولم يعد هناك حكايات حب تصلح أن تروى، لأن زمن الفوضى والقتل والتدمير، لا يمكن أن تنبت فيه قصص المحبة، ولا تنمو فيه المشاعر النبيلة ولا الأخلاق الحميدة.. صاح شهريار: توقفي عن السرد يا شهرزاد، وعودي إلى حكايات الليالي فهي أفضل ألف مرة من حكايات «الربيع العربي»..

في المنتدى الحواري الذي أقامته وزارة الثقافة بالتعاون مع الهيئة العليا للبحث العلمي، في مكتبة الأسد الوطنية بين 11 و12 تشرين الثاني، سألني أحد الحضور الكرام، ما الدور المطلوب من المثقف المشتغل بالهم السياسي العام؟ قلت: البقاء على القضايا المصيرية حية في القلوب والعقول، وإعادة التذكير بما تهدم، أو تعرّض للاعتداء والإرهاب، فذاكرة الشعوب تصنعها الكتابة، وقد كان من الممكن القول بعد قرن مثلاً إن فلسطين كانت من دون شعب لولا كتابات وأشعار محمود درويش وتوفيق زياد وسميح القاسم وإبراهيم وفدوى طوقان، وغيرهم من أبناء هذا الشعب الذين صمدوا داخل الأرض المحتلة، وحملوا همها ووجعها إلى العالم الخارجي من خلال كتاباتهم ا لتي عكست نبض شعبهم، وطالبت بالحفاظ على تراثه وهويته وحقوقه.. الثقافة يا صديقي يمكنها أن تناطح الصعب، وتلاعب المستحيل، وتوقظ الشعور بالمسؤولية، والمثقف والأديب، تنيط بهما الشعوب- عادة- مهام حراسة الوعي الجماعي، وتمثيل الضمير الوطني..

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن