قضايا وآراء

أردوغان أسير حلم ورهان

القاهرة – فارس رياض الجيرودي :

لم يكن بإمكان أي محلل عسكري أو سياسي التنبؤ بحادثة إسقاط تركيا الطائرة الروسية فوق الأراضي السورية، بل إن روسيا ذاتها لم تكن تتوقع الفعل التركي، بدليل أن القاذفة الروسية التي أسقطت كانت تحلق بمفردها من دون حماية من طائرة السوخوي 30 الاعتراضية التي أرسلت أصلاً إلى قاعدة حميميم لغرض حماية الطائرات الروسية القاذفة أثناء أداء مهامها في قصف مواقع الإرهابيين، وعلة عدم إمكان توقع عملية الإسقاط لا تعود لكونها أمراً خارقاً من الناحية التكنولوجية (كما هو واضح)، وليس لأن تركيا سجلت سابقة التجرؤ على إسقاط مقاتلة تعود لقوة عظمى، فالتاريخ لا يخلو من حوادث مشابهة، لعل أقربها حادثة إسقاط الدفاعات الجوية السورية لطائرتين أميركيتين كانتا تقصفان القوات السورية المرابطة في سهل البقاع عام 1983، لكن سبب صعوبة توقع الخطوة التركية يعود أساساً لكون القرار السياسي الذي يقف خلفها لا يتسق مع أي من مقتضيات العقل السليم، فالمحلل لمتغيرات السياسة ومساراتها يعتمد في محاولاته لاستشراف الأحداث على استنطاق العقل للحكم على ما تقتضيه مصالح كل طرف ومن ثم يتوقع أداء ذلك الطرف، وبناء عليه لم يكن بالإمكان توقع القرار التركي حتى بالنسبة لصناع القرار في روسيا، فليس من مصلحة دولة من عيار دول الصف الثاني في الحجم والقوة العسكرية أن تستفز دولة عظمى مثل روسيا لأجل قضية خاسرة لا تتعلق بتهديد داهم لأمنها القومي، وهو ما كانت الحال عليه في وضع سورية والولايات المتحدة في أوائل الثمانينيات حين كانت قوات المارينز تحتل بيروت ومقاتلات الأسطول السادس الأميركي تهدد اللاذقية ودمشق وتقصف الجيش السوري في لبنان، بالمقارنة لم تكن الطائرة الروسية في مهمة قصف لإحدى وحدات الجيش التركي، وبالتالي لم تكن الجرأة التركية دفاعاً عن قضية وطنية تستحق تحمل ما سينتج عن استفزاز قوة عظمى، بل إنها كانت تتعلق بتقديم الحماية لمجموعة من التنظيمات الإرهابية التي باتت تشكل خطراً على الأمن العالمي، وهي تنظيمات صار الرأي العام العالمي واعياً أكثر فأكثر لخطرها بعد سلسلة الأحداث الإرهابية الأخيرة التي ضربت مواقع عدة حول العالم، ما يجعل الدفاع عنها بحد ذاته أمراً محرجاً ومكلفاً.
يؤكد لاعقلانية القرار التركي أنه اتخذ بعد حقبة من تلكؤ الحلفاء الغربيين في الاستجابة للدعوات التركية للتدخل عسكريا من أجل إقامة ما يسميه أردوغان (المنطقة العازلة)، كما أن القرار جاء بعد الخذلان الكبير الذي ارتكبه هؤلاء الحلفاء عندما قرروا سحب صواريخ الباتريوت من جنوب تركيا وهي الصواريخ الضرورية من أجل تنفيذ الحظر على الطيران السوري شمال سورية ولحماية الأراضي التركية نفسها من إمكانيات التعرض لقصف صاروخي أو جوي في حال اندلاع المواجهة الشاملة، ما سبق لا يعني أن أردوغان اتخذ قراره بمعزل عن تشجيع دول الناتو وعلى رأسها الولايات المتحدة، بل إن التنسيق مع أميركا قبل اتخاذ القرار هو المرجح نظراً للتغطية الكلامية الأميركية التي حصلت عليها تركيا عقب تنفيذ العملية، لكن السؤال المهم الذي كان على صانع القرار التركي أن يطرحه على نفسه هو: هل تتخطى الولايات المتحدة وحليفاتها في الناتو التغطية الكلامية للهجوم الأردوغاني إلى تقديم تغطية عسكرية فعلية لتركيا على ساحة المواجهة تعينها فيها على تنفيذ المشروع الذي وضع أردوغان عملية إسقاط الطائرة الروسية في إطاره أي مشروع ( المنطقة العازلة شمال سورية)؟ أم إن أميركا تكرر كمرات سابقة عادة دفع أحد حلفائها لاتخاذ خطوات تصعيدية تستفيد منها كبالونات اختبار أو كأوراق تفاوضية، من دون أن تقدم في لحظة الحقيقة الدعم العسكري للطرف المتورط الذي يتحول في هذه الحالة لوقود يحترق لاستنفاد آخر خيارات التصعيد الأميركية؟.
إن مراجعة متفحصة لسجل المواقف الأميركية منذ اندلاع الأزمة السورية يدفعنا لترجيح الخيار الثاني وبقوة، فالولايات المتحدة تراجعت مرات عدة، بعد تلويح باستخدام القوة العسكرية ضد الدولة السورية وجيشها، وذلك في ظروف ملائمة لتنفيذ التهديد أكثر بكثير من الظرف الحالي، سواء من جهة توافر الذريعة الأقوى الصالحة لحشد تأييد الرأي العام الأميركي والعالمي لاستخدام القوة العسكرية (ذريعة استخدام السلاح الكيماوي)، أم من جهة موازين القوى التي لا يمكن لأحد إنكار أنها تغيرت بشدة لمصلحة الدولة الوطنية السورية بعد التدخل العسكري الروسي المباشر الداعم لها على ساحة المعركة، لذلك لا شيء يدعونا لتوقع أن أوباما سيقدم على ما لم يتجرأ أن يقدم عليه في مواجهة حلف المقاومة عندما لم يكن الجيش الروسي بما استجلبه من أسلحة وازنة موجوداً على الأرض السورية.
بناء عليه نستطيع أن نقرأ في الخطوة التركية رغبة أميركية في استثمار نقاط الخلل التي تعاني منها شخصية أردوغان لإطلاق الرصاصة الأخيرة في المواجهة السورية على أمل تحسين فرص ضمان مكان ما لنفوذ أميركي في مستقبل سورية، دون أن يبدو من نية الإدارة الأميركية استعداد لاتخاذ أي خطوة عسكرية في المستقبل دعماً لتركيا تؤدي لانزلاق الجيش الأميركي في صدام مباشر مع روسيا أو حلفائها على أرض المواجهة في سورية، فهذا خيار لا تعتقد مؤسسات صنع القرار في أميركا أن ما سيتحقق منه يزيد أو يساوي ما سينتج عنه من خسائر.
لذلك علينا لنستوعب أبعاد الحماقة التركية أن نفهم شخصية أردوغان، فهو نموذج للشخصية الشائعة في أوساط النخب الحاكمة في منطقتنا، سواء من جهة الإيمان بالقدرة الكلية للغرب الاستعماري الذي يمثله السيد الأميركي، وباستحالة أن يمتلك أي طرف آخر في العالم فرص التصدي لتلك القدرة أو الحد منها، أو من جهة تضخم الذات والعجز عن التراجع عن الأخطاء والرهانات التي ثبت خسرانها وعبثية الإصرار على المضي فيها حتى النهاية (تجربة احتلال نظام صدام حسين للكويت ورفض الانسحاب منها).
لقد صدق أردوغان حلم استعادة الامبراطورية العثمانية ليس فقط بسبب حجم تركيا وقدراتها لكن أساساً لأن الولايات المتحدة الأميركية هي من أوحت له بذلك الطموح في بدايات حقبة ما سمي الربيع العربي، وغاب عن باله أن أميركا ما بعد الإخفاق التاريخي في حربي العراق وأفغانستان، وما بعد خسارة آلاف الجنود و3 تريليونات دولار في المغامرتين هي غير أميركا ما قبل ذلك، وهكذا أصبح الرجل الذي لم يتعود التراجع من دون تحقيق طموحاته أسيراً لحلم الامبراطورية الذي تشكل سورية مدخله وممره الإجباري، من هنا نفهم تكرار لوم أميركا والمجتمع الدولي في خطاباته لما يسميه (الخذلان الذي يتعرض له الشعب السوري بسبب تلكؤ المجتمع الدولي)، فمصطلح المجتمع الدولي لا يعني وفقاً لأدبيات الخطاب السياسي السائد في منطقتنا إلا أميركا وما تريده وتقرر إملاءه بالقوة المباشرة.
تدرك روسيا من جهتها أنها دخلت في سورية معركة لا مكان فيها لمكان وسط بين الانتصار والهزيمة، وهي أصلاً لم تقدم على تدخلها إلا بعد تقدير أن التغيير في مسارات الحرب في سورية لا يمكن أن يمر إلا عبر الجبهة التركية، لذلك تنتظر أردوغان أيام صعبة سيخوضها وحيداً في مواجهة قوة عظمى تديرها قيادة عرف عنها التصميم وتوظيف أخطاء الخصوم لتحقيق النجاح، من استعادة الشيشان إلى اقتطاع أوسيتيا وابخازيا من جورجيا، إلى استعادة القرم من أوكرانيا، إلى تثبيت قواعد عسكرية في القطب الشمالي، إلى الاستفادة من شعار محاربة الإرهاب الأميركي المراوغ للحضور عسكرياً في سورية، وأخيراً توظيف حادثة إسقاط المقاتلة الروسية لبناء أحد أكبر قواعد الدفاع الجوي في العالم على الأرض السورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن