ثقافة وفن

بين رياح التغيير وآمال عظيمة، تكمُن مفارقة الاختيار قدرة على اتخاذ القرار والبدء من جديد، هل فعلا نستطيع؟

| ديالا غنطوس

من ألبوم «عالم مجنون»، ولدت أغنية «رياح التغيير Wind of Change» عام 1990 والتي كتب كلماتها كلاوس مين، المغني الرئيسي للفرقة الذائعة الصيت (سكوربيونز – العقارب)، تلك الأغنية التي لامست قلوب الكثيرين حول العالم، بسبب اختلافها النوعي من ناحية الموسيقا تحديداً، فحملت مع رياحها تغيراً في معالم الحياة في أوروبا الشرقية بشكل عام. ومن رياح التغيير إلى رواية «آمال عظيمة 1861»، رائعة تشارلز ديكينز، التي يروي فيها توقف الحياة عند فتاة عاشقة فضَّلت أن تستسلم دقات ساعتها تمام التاسعة إلا ثلثاً من صباح يوم لم تُكتب لها فيه سعادة الزواج بحبيبها، فعاشت أيامها كأنما عقارب الساعة لم تعد تقوى على السير، وقضت ما تبقى من عمرها تعانق ثوب زفاف لم تشأ لها الحياة أن تخلعه بعد ذلك. هي شخصية الآنسة هافيشام، تلك العجوز الثرية الغريبة الأطوار التي هجرها حبيبها في ليلة زفافها فتوقف الزمن بالنسبة لها عند تلك اللحظة، ليس من ناحية الشعور فقط، بل حتى الواقع المعيش، إذ احتفظت بكل شيء حولها كما كان تماماً في تلك اللحظة وبقيت ترتدي فستان زفافها لما تبقى من حياتها.

بين رياح التغيير وآمال عظيمة، تكمُن مفارقة الاختيار، بين أن نكون قادرين على الإبحار في مركب الحياة العائم غير عالِمين بما يحمله لنا، وبين اليأس وتفضيل السكون في مكان واحد، رافضين كل أشكال التغيير التي يمكن أن تحمل في طياتها مباهج أو أحزاناً، هي تلك القدرة الإنسانية على تقبل كل ما تأتينا به أيامنا بغضِّ النظر عما ستجلبه لنا من مفاجآت.
لعله لم تراود بال الروائي ديكينز فكرة أن تتجسد خيالاته التي قدمها في روايته وأن تكون لها بطلة حقيقية عاشت ذات التفاصيل وأضافت إليها غرابة، هي قصة الفتاة الجميلة آنا بيكر الابنة المدللة لتاجر الحديد الأميركي الثري الياس بيكر، التي انتقلت مع عائلتها للعيش في قصر فخم شيَّده أباها في ولاية بنسلفانيا، ونظراً لجمال آنا وثرائها فقد رفض والدها عدداً لا يحصى من طالبي الزواج منها، متأملاً بزيجة أكثر تميزاً، ربما من أمير أو ملك طمعاً منه باللقب والنسب لابنته، لكن الأمور لم تسر كما خطط لها، حيث تعلق قلب ابنته آنا بموظف معوَّز ذي حال رثة يعمل في أحد مصانعه، وقعت أسيرة غرامه وأصرت على الزواج منه على الرغم من معارضة والدها وغضبه واشترت ثوب زفاف وعقدت العزم على الهروب معه، لكن سوء الحظ جعل والدها يكتشف المخطط، فزجَّ بها حبيسةً في غرفتها لفترة تجاوزت الشهور وطرد حبيبها من العمل ومارس نفوذه لإبعاده عن الولاية، تعرضت آنا إثر ذلك لصدمة لم تتمكن من تجاوزها ووقف بها الزمن في تلك اللحظة التي كانت بها على وشك الزواج من ذلك الشاب، وتبعاً لذلك رفضت كل عروض الزواج والإغراءات، وفضَّلت حياة العنوسة على الزواج مكرهةً بمن لا تطيق، حتى مرت السنين ومات كل أفراد عائلتها وصارت عجوزاً طاعنة في السن تعيش في القصر وتحدق طوال الوقت بثوب الزفاف الذي لطالما حلمت بارتدائه كأي عروس تزف للرجل الذي تحب. وانتهت حياة آنا عام 1914 حيث وُجدت على سريرها محتضنة ثوب زفافها الذي لم تخُنه يوماً ولم يفارقها حتى دقت ساعة رحيلها.
كثيراً ما نسمع عن وفاء المرأة وإخلاصها، وفي الطرف المقابل تكاد تنعدم القصص التي تحدثنا عن وفاء الرجل حيث لا تكف النساء عن إلصاق تهم الخيانة والجحود بالرجال، لكن للإنصاف يمكنني القول إن الوفاء أمر نسبي يتعلق بطبيعة الشخص لا بجنسه، وهو ما تثبته قصة الأرجنتيني «روكي» الذي التقى «جوليتا» عام 1937 في أحد مقاهي مدينة بوينس آيرس الأرجنتينية وهي الفتاة التي صارت شريكة عمره لاحقاً، بعد أن جذبت قلبه وأسرت روحه بعذوبة كلامها وهي تجلس على طاولة خلفه محدثة صديقتها عن كيفية سمو الإنسان بروحه ومغزى الحياة، بينما كان روكي يسترق السمع من مكانه باهتمام فائق، وهو ما دفعه للتيقن بأنها هي من يبحث عنها حتى قبل أن يستدر ليرى وجهها الذي فاق كلامها جمالاً، وبالفعل تمكن روكي من الفوز بقلب جوليتا وتكللت علاقتهما بالزواج وأنجبا طفلين واستمر حبهما بعد الزواج واتَّقد وازداد توهُّجه، وغادرت العائلة عام 1971 إلى الولايات المتحدة الأميركية، وبعد زواج ابنتهما وعمل ابنهما في ولاية بعيدة عاش الزوجان بمفردهما في المنزل حتى وصلت قصة حبهما إلى محطتها الأخيرة بوفاة جوليتا عام 1993 بعد 55 عاماً عاشاها معاً، وتم دفنها في مقبرة سانت جوزيف القريبة من المنزل، انتاب روكي حزن عميق وزهدت نفسه الطعام والشراب فكانت اللحظة التي توقف بها الزمن بالنسبة له في غياب توءم روحه، ما دفعه لاتخاذ قرار ملازمة قبرها، ففي كل صباح يكون روكي أول الداخلين إلى المقبرة ولا يبارحها حتى المساء حين تغلق المقبرة أبوابها، يلقي عليها التحية كل يوم قائلاً «أهلا حبيبتي.. أنا هنا»، لم يحُل أي ظرف أو طقس أو مرض بين ذاك العجوز التسعيني النحيل وقبر حبيبته حرصاً منه على عدم إشعارها بالوحدة والضجر، يجلب لها الهدايا في الأعياد ويوزع الكعك على زوار المقبرة في ذكرى زواجهما، حتى بدأ زوار المقبرة وسكان المنطقة بملاحظة وجوده الدائم، ودفعهم فضولهم لسؤاله عن قصته وكان يرويها ويسرد أحداثها كل يوم لجميع السائلين، وسرعان ما انتشرت قصته في الصحافة وأصبحت على كل لسان، حتى وصلت القصة إلى نهايتها عام 2013، فبعد عشرين عاماً من الزيارات اليومية غاب روكي ذات يوم حين أقعده المرض ولازم الفراش، لكن غيابه لم يطُل سوى شهر واحد، عاد بعده ليس زائراً، بل لينام بجانب حبيبته ويحظى بهذا الشعور الذي لطالما حلًم به وانتظره، توفي روكي وبات ملازماً لزوجته حتى عندما تغلق المقبرة أبوابها، ليبقيا معاً حبيبين إلى الأبد.
على الرغم من وجود حالات قد لا يسعفها تفكيرها ويساعدها على قبول الواقع الجديد والمضي قدماً في الحياة بعد التعرض للملمَّات الثقيلة الوقع، وتقع أسيرة ماضٍ لا تقوى على تركه وهجرانه، إلا أن ذلك لا ينطبق على العموم حين تصيب فاجعة ما إحدى الأمم، فغالباً ما يسعى المرء لتجاوز محنته وتخطيها وطَيّ الصفحة للبدء من جديد، هذا الواقع الذي ترجمته أغنية «رياح التغيير Wind of Change» عام 1990م التي غنتها فرقة سكوربيونز احتفالاً بالتغييرات السياسية الشاملة التي حدثت في أوروبا الشرقية بسقوط جدار برلين، وجاءت الأغنية كاستباق وانعكاس لتململ الناس ومعاناتهم من القيود التي كانت سبباً في انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، وقد صنفت الأغنية أنها أغنية القرن العشرين، فكلماتها تدور حول حقيقة الحرب بما توقعه من ضحايا أبرياء، ما يستدعي ضرورة هبوب رياح التغيير التي ستستبدل الواقع بأحسن منه، واختم ببعض المقاطع المترجمة لتلك الأغنية العظيمة التأثير:
في ليلة صيفية من آب
حيث الجنود يعبرون
وهم يسمعون رياح التغيير
العالم يقترب
هل فكرت للحظة
أنه يمكننا الاقتراب من بعضنا أكثر، كإخوة
المستقبل يجوب في الهواء
أستطيع أن أشعر به في كل مكان
يهب مع رياح التغيير
■ ■ ■
خذني، إلى سحر اللحظة
في ليلة مجيدة
حيث أطفال الغد يحلمون بعيداً
في رياح التغيير
■ ■ ■
أمشي في الطريق
ذكريات بغيضة
دُفنت في الماضي للأبد
رياح التغيير
تهب مباشرةً في وجه الزمن
مثل عاصفة ستدق جرس الحرية
من أجل راحة البال

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن