قضايا وآراء

أحداث الأقصى بين كذبةِ الردع والواقع الإقليمي الجديد.. متشوقون للمعركة يا نتنياهو

| فراس عزيز ديب

لم يعُد بالإمكانِ القولَ إن المنطقة على صفيحٍ ساخن لأنه وحسبَ المعطيات فإن العالم أجمع أصبح على صفيحٍ ساخن قد تبدو معهُ أحداث المنطقة مجردَ شرارة مدفعِ الإفطار عن التحفظات وسياسةَ ضبط النفس أو الاحتفاظ بحق الردِّ، لكن بالسياق ذاته هناك من يتحدث عن تهويلٍ كبير بالحرب التي لا تبدو كأنها من مصلحةِ أحد إذ لا يكفي وسطَ هذهِ الفوضى التعاطي مع جميع الأحداث من منطق العاطفة، لابد للواقعيةِ السياسية أن تحكم حكمها في بعض التفاصيل فما الجديد؟

شكَّلت أحداث المسجد الأقصى مادةً إعلامية دسمة بُنيت عليها الكثير من التحليلات بما فيها العبارة المكررة «الأقصى خط أحمر»، هذهِ العبارة عاشَت معنا عقوداً من الزمن لم نلحظ فيها أي تغييرٍ في عربدةِ الكيان الصهيوني، وكما كل مرة فإن هذه الخطوط الحمر تتجاوزها ببساطة الوساطات ودعوات التهدئة هنا وهناك لتعود الأمور إلى سياقها الطبيعي، لكن هذه المرة لابد من الالتفاتِ إلى اختلافٍ جوهري طبع سياق الأحداث وهو ما قد يفتح البابَ واسعاً للكثيرِ من الاحتمالات، هذا الاختلاف يرتبط فعلياً بالكيان الصهيوني نفسه والذي يمكننا قراءته ببعدين أساسيين:

أولاً: البعد الإقليمي

هذا البُعد حكماً لا يسيرُ وفقَ أهواءِ الكيان الصهيوني، حيث إن الحراك التصالحي والسعي لحل المشاكل العالقة في الإقليم لم يُعرَف له مثيل منذ ما قبل انهيار حكم الشاه في إيران، بصورةٍ بدا فيها قادة الدول وكأنهم يجهزون لهذه المرحلة منذ زمنٍ ليسَ ببعيد، فمسار المصالحات الذي يسير دونما توقف كان ولا يزال المشكلة الأهم التي تواجه ردات فعل هذا الكيان بطريقةٍ بدَت وكأنها تسحب منه الكثير من الأسلحة الدبلوماسية التي اعتادَ الحصول عليها دونما عناء، هذا المسار دفعَ ساسة الكيان لتراشق الاتهامات حول المسؤول الحقيقي عنها، بعض الإعلام الإسرائيلي حمَّلَ مثلاً زعيم المعارضة يائير لابيد المسؤولية تحديداً عن التقارب الإيراني- السعودي بسبب خطاباته العدائية، لم يعد بالإمكان اللعب على وترِ السلاح النووي الإيراني، لم يعد بالإمكان التعويل على التحريض المذهبي لكسر خطوط التوافق بين الركيزتين الهامتين في الخليج العربي وهما المملكة العربية السعودية وإيران، لم يعد بالإمكان الاستثمار بالفوضى بعدَ أن أصبحت الفوضى داخل الكيان نفسه، فيما بدت الحرب على اليمن مثلاً وكأنها تضع أوزارها والتي نتمنى أن تكون الخطوات المباركة القادمة لإنهائها أسرعَ من المتوقع، ختاماً لم يعد هناك إمكانية حتى للتعويلِ على الدول المطبعة مؤخراً والتي فيما يبدو وكأنَّ تطبيعها كان فخَّاً له أظهر لكل من في قلبهِ وجل بأن هذا الكيان لم ولن يفكر يوماً بمنطق الدولة، تفكيره منصبٌّ فقط على فكرةِ التفوق التي بدأت تنقلب ضده بصورةٍ أمعنت في عزلهِ في الوقت الذي ظنَّ فيهِ المقتنعون بأن هذا الكيان قدر، لكن ما يزيد من مأساوية هذا الحراك بالنسبة للكيان أنه حراك خارج سياق الرضى الأميركي وهو أمر لم يعتد عليهِ ليس فقط من يُقامر بالسياسة في هذه المنطقة لكن حتى الأميركي نفسه بدا عاجزاً عن ذلك، هو نفسه الذي أبلغَ المملكة العربية السعودية عن الانزعاج من الانفتاح على إيران وسورية فكانت النتيجة استمرار المملكة في سياستها الجديدة، هو نفسه الذي طلبَ زيادة إنتاج النفط لتغطية الإنتاج الروسي فكانت النتيجة تخفيض الإنتاج، لحظات الوهن تلك بدأت تتكرس أكثر فأكثر بطريقةٍ تبدو فيها المعادلة الصعبة آخذة بالتحقق: إضعاف أميركا في المنطقة لا يمكن من دون عزل الكيان!

البعد الثاني: داخلي

عندما بدأت الاحتجاجات في الكيان على التعديلات التي تطمح الحكومة المتطرفة القيام بها لجعل السلطة المطلقة بيديها هناك من حذَّر كثيراً في الداخل الإسرائيلي نفسه من خطورة ما يجري، قلنا وقتها إن حديث زوال الكيان لم يعد حديثاً إيديولوجياً لبعضِ الأحزاب العروبية أو وسائل إعلامها نحن نتحدث عن تحذيراتٍ تصدر من الكيان نفسه وفق معطياتٍ خطيرة عن مستوى الانقسام، اليوم وبعدَ أكثر من شهرين لم يتبدل شيء، لم تنجح مساعي التهدئة محلياً بل زادت في إصرار المتظاهرين، بالسياق ذاته لم تنجح حكومة الكيان بتصديرِ الأزمة عبرَ تفعيل قصف مواقع للجيش العربي السوري أو استهداف مستشارين عسكريين إيرانيين أملاً بافتعالِ حرب تُعيد شد العصب الصهيوني في الداخل، فهل لجأ الكيان لما هو أخطر؟

منذ حدوث عمليات إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان باتجاه فلسطين المحتلة وغياب البيانات الرسمية التي تتبنى هذهِ العملية كانت هناك العديد من التساؤلات حول الجهة التي قامت فعلياً بالقصف، ماذا لو كان عملاء لإسرائيل هم من قاموا بهذا العمل؟ تحديداً إن كل ما تم إطلاقه هو بضعة صواريخ بدائية فعلت فعلها إعلامياً بإظهار الكيان كضحية أكثر من فعلها بإظهارهِ كضعيف، بالسياق ذاته هناكَ كلام حتى عن عمليةِ الدهس الأخيرة التي راحَ ضحيتها، ويا للمصادفة، مجردَ سائحٍ إيطالي في ظل غياب كامل لبيانات رسمية تتحدث عن الدوافع والأهداف، علماً أن هناك من ينفي فكرة حمل المهاجم لسلاح فيما السائح قتل بسلاح ناري! فهل إن كل ما جرى كان كما يرسم له بنيامين نتنياهو؟

ربما بينَ التأكيد والنفي قد ترجح كفة التأكيد وإن كان هذا الكلام قد لا يعجب الكثيرين، عندها يصبح علينا لزاماً أن نشرح لماذا لم يتم الاستثمار بهذه الأحداث كما تم التخطيط لها؟

خلال اجتماعات الكابينيت الإسرائيلي مساء يوم الخميس الماضي لمناقشةِ الردود المحتملة على إطلاق الصواريخ، ورغم ما يضمه هذا الكابينيت من أشخاص متعطشين للدماء والحروب، كان هناك انقسام حول آلية الردود، هذا الانقسام لا يعني أبداً أن أحد الطرفين أكثر عقلانية من الآخر بل يعني ما يعنيه بأن هناك من أدرك بأن نتنياهو قادر أن يجر المنطقة بالكامل إلى حربٍ إن كان هذا الأمر سيسهم بإنقاذه، فكانت المعارضة الداخلية لتوسيع الردود، هذه المعارضة لم تكن داخلية فحسب فالعديد من الأوساط الأوروبية تحدثت عن تحذير أميركي لنتنياهو بأن توسيع رقعة الردود سيعني حكماً حرباً قد يمتلك نتنياهو قرار إشعالها لكنه حكماً لا يمتلك قرارَ إنهائها على طريقة حرب تموز في العام 2006، لكن هذه الخيارات لم تقف عند حدود «فشل استثمارها» فحسب بل هي تقدمت باتجاه أن تكون أقرب للسحر الذي انقلب على الساحر فكيف ذلك؟

كان الكيان الصهيوني ولا يزال يفاخر بفكرة «القدرة على الردع»، خلال العدوان على غزة مطلع شهر آب الماضي ارتقى عشرات الأطفال، يومها خرج رئيس حكومة العدو حينها يائير ليبيد ليفاخر بقوة الردع التي تحمي الإسرائيليين حتى لو كان القتلى أطفالاً، هذه البروباغندا نجحت إلى حدٍّ بعيد بمنح الكيان عبرَ العقود الماضية نقاطاً إعلامية على حلبةِ هذه المنطقة، لكن ومنذ حرب تموز حتى اليوم بدأت هذه الفكرة بالتآكل، اليوم وصلنا إلى الحد الذي بات فيه الكيان يخشى من الردود بمعزلٍ عن الجهة التي استهدفته، تآكل الردع هذا هو ما كانت القوى المقاومة بقيادة الجمهورية العربية السورية تعمل عليه منذُ عقود في الوقت الذي كان هناك من يتهمها بالجنون، اليوم فيما يبدو وكأن حصاد هذا العمل بدأ يأتي بثماره، لكن في المقابل هناك من سيسأل ولو بخبث: لماذا لم تلجم هذه السياسة الكيان عن عربدته في السماء السورية؟

للإجابة عن هذا السؤال دعونا فقط نميز بين الجبهة السورية التي تمتد على كامل المساحة السورية بمفهوم دولة مقابل «كيان»، وبين الجبهة اللبنانية أو الفلسطينية التي لا تملك هذا التوصيف، هي جبهة «كيان» ضد قوى مقاومة، الحرب بين الدول إن جاز التعبير لها حسابات أدق من مجرد الانجرار نحو ما يريده العدو والدليل ماثل أمامنا عبر عجز الكيان حتى باعتراف رؤساء المجالس في مُستوطنات ما يُسّمى بـ«غلاف غزّة» الذين اعتبروا أن الردود لا ترتقي لحجم التهديد الذي تعانيه «دولة إسرائيل»، بل إن هذا الكلام كان محورياً بالتحذيرات التي وجهتها الولايات المتحدة لنتنياهو: سورية وإيران لديهما ثأر لا تعطيهما الفرصة! فماذا ينتظرنا؟

وسط هذه المعطيات لا يبدو التراجع سيد الموقف، كل ما يجري اليوم يبدو في مصلحةِ القوى المقاومة لكن حكماً لا يبدو بأن هناك عودة إلى الخلف، هل سنسمع من جديد عبارة:

نحن متشوقون للمعركة يا نتنياهو قريباً؟! لم لا؟ ألا يشكل ما يجري فرصةً ذهبية؟ فما بالك عندما تكون هذه الفرصة على شكل عدو يهرب من أزماته؟!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن