قضايا وآراء

مسارات متقاطعة ومسارات متباعدة

| عبد المنعم علي عيسى

تُقرأ الأزمة التي افتعلتها واشنطن مع طهران قبيل أيام قليلة من انقضاء العام المنصرم وفحواها قيام هذه الأخيرة بتطوير صواريخها البالستية البعيدة المدى على الرغم من أن هذا الموضوع لا علاقة له باتفاق فيينا 14/7/2015، وكذلك الرد الإيراني الصلب الذي جاء على لسان رأس الهرم في السلطة عندما أعلنت وكالة الأنباء الإيرانية 30/12/2015 أن الرئيس حسن روحاني وجه وزير دفاعه بوجوب تطوير البرنامج الصاروخي الإيراني إذا ما ذهبت واشنطن إلى فرض عقوبات جديدة على طهران، تقرأ تلك الأزمة (وردود الفعل الإيرانية عليها) على أن هناك العديد من القضايا الإقليمية العالقة التي أضحت مؤخراً أكثر إلحاحاً من ذي قبل، على حين أن المواقف لا تزال على تباعدها بين واشنطن وطهران فيما يخص تلك القضايا وما عملية الشد والتراخي الحاصلة الآن إلا أحد مظاهر التفاقم الناجم عن تباعد المواقف بين العاصمتين.
شكلّت فسحة التباعد الآنفة الذكر فرصة سانحة للرياض فاندفعت نحو استثمارها خصوصاً أن تتالي الخيبات السياسية السعودية لم يزل يشكل طابوراً غير منتهٍ ولربما في الذروة منها كانت تلك الاندفاعة –التي باءت بالفشل- لتكريس زعامتها العربية انطلاقاً من وضع مصري مضطرب حتم على القاهرة الخروج من المنافسة ووضع سوري معقد أدى كما لم يؤدِ في يوم من الأيام إلى خلخلة الدور الإقليمي السوري، وعلى الرغم من ذلك فقد جاءت المحاولة السعودية بثياب كاريكاتورية فاقعة دلت عليها الأزمة اليمنية التي لم تستطع الرياض منفردة زحزحتها ولو في احتضانها للحوار اليمني– اليمني الذي وجد ضالته كما يبدو في سويسرا لينعقد عليها بدءاً من كانون الأول 2015.
لا يمكن تفسير السياسات التي تعتمدها الرياض والتي هي أقرب ما تكون إلى حافة الهاوية إلا عبر مسلسل الإخفاقات المشار إليه وإلا فلماذا كل هذا التجييش الطائفي والمذهبي دونما أدنى حساب لما يمكن أن ينجم عنه حتى ولو كانت تداعياته سلبية على النسيج المجتمعي للبلاد، فقد أظهرت حادثة اغتيال الشيخ نمر باقر النمر (2/1/2016) أن هناك تناقضاً بين المصلحة الوطنية السعودية بين مصلحة النظام الحاكم فيها فهي (حادثة الاغتيال) تمثل بالنسبة للأولى (المصلحة الوطنية) إسفيناً يدق في التركيبة المذهبية القائمة في البلاد على حين أنها تمثل بالنسبة للثانية (مصلحة النظام الحاكم) ورقة رابحة يمكن أن تؤدي إلى تدعيم أركان آل سعود في السلطة بغض النظر عما يمكن أن تتركه تلك الحالة على البنية الديمغرافية للمملكة.
يمكن تفسير كل هذا الارتباك في السياسات السعودية على أنه ناجم عن إحساس سعودي بتراجع الثقل السياسي وكذلك تراجع دورها في مواجهتها المعلنة والمستترة مع طهران بعدما تأكد لها أن واشنطن ليست بوارد أن تقلص تلك المسافة التي اتخذتها مع الأزمات التي باتت تهدد المملكة الوهابية في العمق، ولربما ترى الرياض في تعاطي واشنطن مع الأزمة الدبلوماسية السويدية – السعودية (شباط 2015) خير دليل على ذلك، كما ترى أيضاً في ما ذهب إليه الاتحاد الأوروبي مؤخراً نوعاً من غض طرف أمريكي راضٍ بل يدفع بما قام به هذا الأخير عندما عمد البرلمان الأوروبي في 26/11/2015 إلى تسليم السيدة إنصاف حيدر جائزته العريقة بدلاً من زوجها رائف بدوي المدون السعودي المعتقل منذ أيار 2012 بتهمة الإساءة للإسلام والمحكوم بعشر سنوات سجن وألف جلدة نفذ منها حتى الآن 50 فقط في كانون الثاني 2015.
وسط هذا الظلام الذي يعتور النظرة الأوروبية والغربية للرياض تبدو محاولات هذه الأخيرة لإكسابها بعداً آخر أشبه بممارسات (توم) الخاسرة دوماً مهما فعل مع خصمه اللدود (جيري) الأمر الذي تمثل في الإعلان عن السماح للنساء السعوديات بممارسة الانتخاب والترشح في الانتخابات البلدية التي جرت مؤخراً كانون الأول 2015 والتي قيل إن 17 امرأة قد فازت فيها، فما جدوى ذلك الفوز في ظل سيل جارف للفتاوى التي تحاصر كل حركة أو كلمة يمكن أن تقدم عليها المرأة السعودية والتي تصل في مراحلها المتقدمة حدوداً دفعت بالخارجية السويدية إلى القول إن النظام السعودي لا ينتمي إلى هذا العصر.
تبدو واشنطن غير مستعجلة في إنضاج الأزمات التي تمر بها المنطقة وهي إذ تفعل فإنها تنطلق من رؤيا أو رهان قديم لا يزال معتمداً في السياسات الأمريكية كما يبدو وهو يقوم على أن اللحظة السياسية التي تلاقت فيها المصالح الروسية مع نظيرتها الإيرانية لن تستمر طويلاً وأن اتفاق فيينا 14/7/2015 يحمل بين ثناياه بذرة التضارب بين موسكو وطهران الأمر الذي لم يحدث والذي سيطول انتظاره كما يبدو.
وسط هذا المشهد المضطرب جاء الاتفاق بين حلفاء دمشق وخصومها على إطلاق المفاوضات السياسية جنباً إلى جنب مع سير المعارك وهي حالة نادرة في الحروب قلما حدثت كمؤشر على اقتناع جميع الأطراف (عملياً وليس إعلامياً) بأن الصراع في سورية لن يحسم عسكرياً مهما طال الزمن أو مهما تغيّرت المعطيات.
التقطت الفصائل المسلحة تلك الإشارات بالكثير من الحذر والتوجس فهي من جهة تدرك أنها قد تكون سلعة يسهل بيعها على مذبح مصالح المتحاربين ومن جهة أخرى تدرك أن عجلة المفاوضات إذا ما قُدّر لها أن تنطلق فإنها (الفصائل) سوف تعجز عن الوقوف بوجهها تحت طائلة التدمير الكلي إذا ما حاولت أن تفعل، وهو ما يفسر ذهاب تلك الفصائل (أو العديد منها) نحو تهيئة المناخات للدخول في التسويات السياسية المفترضة وهو ما أمكن لحظه منذ أواخر تشرين الثاني المنصرم فقد ذهب خطباء المساجد في الغوطة الشرقية بدءاً من يوم الجمعة 27/11/2015 إلى التركيز على موضوع الهدنة وتأكيد مشروعيتها، تناغماً مع موقف سياسي لجيش الإسلام يرى أن مصالحه الميليشيوية والخاصة تقتضي الذهاب في هذا المسار، الأمر نفسه تكرّر مع حركة أحرار الشام التي ذهبت نحو أقصى درجات التصعيد مع حلفاء الأمس (جبهة النصرة) كمؤشر يؤكد سعي الحركة لارتداء اللبوس السياسي الذي يقتضي بالضرورة الابتعاد عن أولئك الذين تستبعدهم العملية السياسية في الوقت الذي ذهب فيه هؤلاء الأخيرون (المستبعدون) إلى إرسال الرسائل في شتى الاتجاهات، فقبيل انعقاد مؤتمر الرياض 9/12/2015 شنت جبهة النصرة في ريف إدلب حملة واسعة لفرض ارتداء النقاب في رسالة تقول إن من يسيطر على الأرض هو من يفرض شروطه وليس أولئك الذين تجمعهم قاعات الفنادق الفارهة، وفي رسالة أخرى أطلق سامي العريدي (أبو معاذ المسؤول الشرعي في جبهة النصرة) تصريحاً قال فيه (لا نريد بوسنة أخرى، في إشارة إلى ما حدث في أزمة البوسنة والهرسك منتصف التسعينيات من القرن الماضي عندما تم التوقيع على اتفاق دايتون 1995 الذي قضى بخروج جميع المقاتلين الأجانب من البلاد.
سلوك الميليشيات المسلحة المتطرفة كداعش وجبهة النصرة يطرح تحدياً كبيراً أمام من يعتبرون أنفسهم في حالة حرب معهم فهم مجتمعين يريدون القول إنهم ليسوا في وارد تغيير مسارهم وعلى الآخرين أن يتغيروا!!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن