ثقافة وفن

تدمر واحة الدموع لم تجد إلا الشجب والإدانة! … «كنز لا يعوض» قراءة غربية للحضارة المنتهَكة

| إعداد: مها محفوض محمد

مع بداية العام 2016 تناقلت الأخبار الثقافية الغربية أنه سيتم تصنيع نسخة طبق الأصل عن قوس النصر في مدخل معبد «بل» التاريخي في مدينة تدمر الذي فجرته داعش في 5 تشرين الأول الماضي وأن لندن ونيويورك ستقومان بعرض هذه النسخة عن القوس الأثري في شهر نيسان المقبل ضمن فعاليات أسبوع التراث العالمي الذي سيشكل حدثا خاصا تحت مسمى «تحدي محاولات الإرهابيين طمس معالم حضارة الشرق الأوسط» ويقوم بهذا العمل معهد علم الآثار الرقمية (IDA) في مشروع مشترك بين جامعتي هارفارد وأوكسفورد حيث سيتم التقاط صور الآثار بكاميرات خاصة ثم تحميلها على قاعدة بيانات ضخمة ثم إعادة نسخها في مجسمات وسيكون ذلك باستخدام أكبر طابعة ثلاثية الأبعاد في العالم وبحسب صحيفة تلغراف البريطانية فسيتم تصنيع القوس في شنغهاي ثم يرسل إلى إيطاليا لوضع اللمسات الأخيرة وبعدها ترسل القطع إلى بريطانيا ليتم تركيبها في أشهر ميادين ويستمينستر في العاصمة لندن وإلى نيويورك حيث ستركب وتعرض في التايمز سكوير وبحسب مدير المعهد روجيه ميشيل: إن عرض مدخل معبد بل الشهير في مكانين من أكبر المعالم الثقافية في العالم هو أمر مهم جداً للفت الانتباه إلى ما يحدث في سورية والعراق وليبيا.

هم يتباكون على تدمير حضارتنا لكنهم لم يفعلوا شيئاً فحضارة تدمر أبيدت وسط صمت دولي لم نلق منه سوى الشجب والإدانات وأغلبها كان من علماء الآثار والمؤرخين الذين أسفوا فعلا لأنهم يعرفون تدمر جيدا، من هؤلاء المؤرخ الفرنسي الشهير بول فين وهو المتخصص بالحضارات اليونانية والرومانية القديمة وقد أصدر مؤخراً كتابا بعنوان «تدمر كنز لا يعوض» قدم له عرضاً في صحيفة لوموند الفرنسية الكاتب الروائي ماتياس اينار (الفائز بجائزة غونكور في تشرين الثاني الماضي عن روايته «بوصلة») تحت عنوان «تدمر واحة الدموع» يقول فيه: إنهم من دون شك مروا من هنا في طريقهم إلى فتوحات العالم، صحابة الرسول وقادة الجيوش لا بد أنهم توقفوا في تدمر في بساتين نخيلها قبل الانطلاق نحو دمشق الغنّاء التي كانت عاصمة الدولة الأموية وحجر الأساس في الإمبراطورية الإسلامية التي حافظت على كل حضارة سبقتها بل اقتدت بها وعززتها.. فماذا بقي من مدينة القوافل؟
هذا ما يخبرنا به بول فين في كتابه «تدمر كنز لا يعوض» الذي يقول فيه: هل من فارس عربي يترجل ليبكي هذه الأطلال وهذا الدمار ففي تراث الشعر العربي وتقاليد الصحراء كنا نشهد ذلك كما فعل امرؤ القيس قبلها بعشرات السنين حين وقف على الأطلال وأنشد:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقوفاً بها صحبي عليّ مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمّل
لقد ابتدأ الشعر العربي بهذه البكائيات أي إنه خلق مع الحنين الذي تثيره أطلال الأِشياء المفقودة واليوم نحن نبكي جميعاً تدمر وما من شدو حزين وترنيم ولائق ورثاء نبيل أكثر من الذي خصصه بول فين إلى تدمر وفي مرثيته الصادقة إلى روح عالم الآثار خالد الأسعد الذي بقي رائد وحارس تلك الاثار لعقود من الزمن قبل أن تغتاله يد الإرهاب في 18 آب الماضي.
هي مرثاة لأن تدمر لا تتوقف قيمتها عند ملكة الصحراء فقط إنما فيها منظومة لاثني عشر رسماً تخطيطياً يتيح التعرف على نوعية المدينة القديمة وأهمية إرثها فماذا دمروا مع تدمر؟ هو السؤال الذي يضمه الكتاب بين دفتيه ويبين فيه بول فين حسرته على الكنز الذي فقدته الإنسانية حيث يبدأ بوصف المدينة الرائعة كما تبدو للزائر وهو أستاذ التاريخ والدليل السياحي فيبدأ بوصف الأسوار ووصف الأعمدة الشاسع مع القوس الضخم الذي فجرته داعش من دون أي سبب سوى أنهم يريدون تدمير أحد الرموز الأشهر في سورية ثم يصف المعابد والمسرح الروماني والسوق التجاري «الأغورا» والمدينة المحاطة بالمدافن وبساتين النخيل ويقدم وصفا لكيفية بناء الصروح في العهد الروماني بين القرنين الأول والثالث الميلادي غير أن المدينة تعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد وقد ذكرت تدمر منذ القرن الثامن عشر قبل الميلاد وكيف كانت المدينة محطة تجارية مهمة بين آسيا وأوروبا كما يتحدث عن تطورها الاقتصادي والسياسي بعد الغزو الروماني في الحقبة الهلنستية، أيضاً يشرح كيف طورت تدمر ثقافاتها الأصلية المتعددة وهي في جزء منها يونانية وفي جزء آخر عربية وكانت تستخدم اللغات اليونانية والآرامية فالحكم عليها من خلال الكتابات المنقوشة بحسب علماء الآثار حيث بقيت اللغة الآرامية أكثر اللغات استخداما خلال العهدين الهلنستي والروماني ويقول بول فين: إن عمق ثقافتها الأصيلة يعود إلى الهوية الهجينة كما لو أن الأصالة جاءت من القدرة على الاندماج والتعددية.
والفصول الأخيرة من الكتاب مخصصة للولائم الدينية التي ازدهرت في تدمر في معابد الآلهة يقول الكاتب: وكانت جذابة جداً حيث كان للوليمة في تدمر أهمية خاصة في معبدي بل وبعلشمين إذ يعتقد أنه في المناسبات الدينية والاجتماعية كانت تقام في المدينة وتذبح الأضاحي بأيدي الكهنة للولائم المقدسة، وفي صور الفن التدمري يقول فين: لقد حاولنا عبثا على خريطة الامبراطوية تحديد أين كانت السلطة أكثر نفوذا في بلاد ما بين النهرين أم في سورية الآرامية الفينيقية كما نهل الفن التدمري من التقاليد البابلية والآشورية والسورية فظهرت الروح الشرقية في هذا الفن وما التماثيل النصفية والآلاف من بورتريه النساء والرجال والأطفال سوى دليل على الانفتاح على الآخر واختلاط الثقافات والحضارات الذي كان يتم في تدمر بين أعظم إمبراطوريات في التاريخ القديم، إذا هي من دون شك كنز لا يعوض وفيها درس لمن يعيشون في هذا القرن ويفبركون الخراب والدمار.
تدمر التي تحول مسرحها اليوم إلى مسرح إعدامات ومتحفها إلى سجن أقول وبحزم: إن تدمر لا تريد ولن تقبل سوى ثقافتها التي قدمتها للبشرية فهي ترفض ثقافة الظلام لأنها أنشودة حضارة إلى النور.
ومع أن الكتاب صدر في تشرين الأول الماضي فقد تم تصنيفه من أفضل المبيعات لعام 2015 في فرنسا وصنفته صحيفة لو فيغارو من أفضل كتب العام.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن