ثقافة وفن

أشهر علماء العالم الذين قدموا حياتهم ثمناً لما نملكه الآن … هل العلم جدير حقاً كي نموت من أجله؟

| ديالا غنطوس

«من لم يمت بالسيف مات بغيره، تعددت الأسباب والموت واحد»، هو بيت شعر لابن نباتة السعدي، يبيّن فيه أن حياة المرء لابد أن تختتم بالموت باختلاف طرقه وأسبابه وأساليبه، على أن الوفاة لا تُنهي حياة الإنسان بكاملها، بل تؤسس أحياناً لبداية جديدة تكون فيها أعمال المرء وإنجازاته سبيلاً لفتحٍ علمي أو أدبي أو حضاري يخلِّد اسمه إلى ما بعد… بعد، وهناك من النهايات العظيمة لحياة أشخاص عاشوا وأفنوا حياتهم في سبيل نشر العلم والمعرفة، وقضوا أيامهم وسنين عمرهم في البحث والاستقصاء، ليكتبوا بعد رحيلهم تاريخاً جديداً يحمل أسماءهم ويؤسس لنهضة مستقبلية، فكانت رحلة حياتهم عبارة عن تاريخٍ يكتب بحبر من نور.
هل من إنجاز أسمى وأنبل من الحفاظ على حياة إنسان بصحة جيدة والمدِّ بعمره؟ في هذا تحديداً يعود الفضل الأكبر للروسي ألكساندر مالينوفسكي (1873م-1928م) الذي اشتهر باسم ألكسندر بوغدانوف، وهو العالِم الذي تنوعت اهتماماته وتعدَّدت لكونه باحثاً فيزيائياً وطبيباً فبرَع بكتابة الخيال العلمي والاقتصاد وشارك بالعمل الثوري عام 1926، عُرف بوغدانوف بأنه رائد علم نقل الدماء فكان أول من اختبر هذه العملية وأنجحها، قبل أن يصبح مديراً لمعهد فصل الدم، بدأت تجاربه عندما كان يعمل على فكرة تجديد الشباب واستدامته من خلال نقل الدم، وذاع اسمه فقصده العديد من المشاهير منهم شقيقة الزعيم السوفيتي «لينين»، ونظراً لخطورة الأمر حينها قام بوغدانوف بتكريس جسده لإجراء الاختبارات ونجح بإجراء 11 عملية نقل دم لنفسه، وزعم وقتذاك أن تلك العمليات مكَّنته من التخلص من الصلع وتحسين مستوى النظر لديه، ولكن باعتبار أن علم نقل الدم كان في مرحلة البدايات وطوْر التجربة، لم يختبر بوغدانوف سلامة الدم المستخدم في التجارب والعمليات، ولذلك لم يحالفه الحظ في عمليته الثانية عشرة التي أدت إلى وفاته، بعد أن قام بحقن نفسه بدماء أحد مرضاه الذي كان مصاباً بالسل والملاريا، فانتقل المرض إليه ومات بعد فترة قصيرة من إجراء العملية عام 1928، إلا أنه ومن خلال مخاطرته بإجراء التجارب على نفسه كان بوغدانوف أحد مفاتيح العلم وسبباً مباشراً في إحياء ملايين المرضى الذين استمتعوا بحياتهم بفضل الخرق العلمي الذي حققه والذي ما زلنا نستفيد منه إلى يومنا هذا بعد انقضاء ما يقارب قرنٍ من الزمن على رحيله.
وبالحديث عن علماء بارزين جسَّدوا التضحية في سبيل خدمة البشرية عن طريق أبحاثهم، نجد أن العبقرية ماري كوري تتربع على رأس القائمة، ماري التي ولدت عام 1867م في بولندا والتي عاشت فيها حتى بلغت سن الرابعة والعشرين قبل سفرها إلى باريس للدراسة واكتسابها الجنسية الفرنسية لاحقاً، كانت في طليعة العلماء الذين عملوا على علم الإشعاع، وهي التي وضعت نظرية النشاط الإشعاعي وأوجدت تقنيات فصل النظائر المشعة، كما اكتشفت عنصرين كيميائيين مُشِعين هما الراديوم والبولونيوم وابتكرت طريقة لعزلهما، وأشرفت على أول الدراسات حول معالجة الأورام عن طريق النظائر المشعة، كما أنها أول امرأة حازت رتبة الأستاذية في جامعة باريس، وقامت بتأسيس معهدين لعلاج الأورام حملا اسمها في باريس وفي العاصمة البولندية وارسو، ولم يقتصر دور ماري كوري على المجال البحثي، حيث أقدمت خلال الحرب العالمية الأولى على تأسيس أول مراكز إشعاعية عسكرية ميدانية على مقربة من خطوط الاشتباك للمساعدة في العمليات الجراحية الطارئة. نالت كوري قدراً عظيماً من التقدير الدولي فكانت أول امرأة تحصل على جائزة نوبل من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، وهي الوحيدة التي حصلت عليها مرتين في مجالين مختلفين، أول تلك الجوائز كانت في الفيزياء لأبحاثها هي وزوجها بيير في دراسة ظاهرة الإشعاع المؤيّن، اقتسمت ريعها مع من تعرف من المحتاجين وكان منهم بعض طلبتها، والجائزة الثانية عام 1911 في الكيمياء لاكتشافها عنصري البولونيوم والراديوم وفصلها له ودراسة طبيعته ومركباته. قدمت ماري كوري حياتها فدى للعلم والعمل، فقد توفيت عام 1934 إثر إصابتها بمرض «فقر الدم اللاتنسُّجي» وهو ناتج عن تعرضها الفائق للعناصر المشعة على مر الأعوام، فلطالما اضطرت ماري لحمل أنابيب اختبار تحوي عناصر مشعة في جيبها ووضعها في درج مكتبها، إضافة إلى تعرضها للأشعة السينية من الأجهزة غير المعزولة أثناء خدمتها في الحرب، إلا أن ذلك لم يكن ليمنعها عن التضحية في سبيل تحقيق ما أنجزته وما قدمته من خدمة جليلة للبشرية جمعاء. تواصل التقدير العالمي لماري كوري بعد وفاتها، فأعلنت بولندا وفرنسا أن عام 2011 هو عام ماري كوري، وخلدت سيرتها العديد من الكتب كان آخرها للكاتب لورين ريدنيس بعنوان «النشاط الإشعاعي: ماري وبيير كوري، قصة حب وأحزان»، كما تناولت قصة حياتها السينما العالمية من خلال الفيلم الأميركي «مدام كوري» الذي رشح لجائزة أوسكار عام 1943، وعام 1997 كان الفيلم الفرنسي «Les Palmes de M. Schutz» عن حياة بيير وماري كوري.
نذكر أيضاً أحد أشهر العلماء الذين قتلتهم اختراعاتهم، المخترع الأميركي ويليام بولوك، وهو الذي أحدث طفرة كبيرة في مجال الطباعة عام 1863م حين اخترع الطابعة الدوّارة التي نستخدمها الآن وكانت ثورة علمية حينذاك، وُلد ويليام بمدينة جرينفيل في نيويورك، عاش يتيم الوالدين مع أخيه الذي انخرط بالعمل معه في مجال الميكانيك، وما ساعد بولوك في مجال عمله كان هوسه بقراءة الكتب العلمية التي أكسبته الكثير من المعرفة، ليتمكن من صناعة المطبعة الدوارة التي تسمح بطباعة أعداد كبيرة ومتواصلة من الورق تلقائياً عن طريق استخدام بكرات، وبذلك توافرت القدرة على طباعة ما يقارب الثلاثين ألف ورقة في الساعة، لكن بعد سنوات قليلة من اختراعه توفي بولوك أثناء قيامه بإصلاح وتعديل واحدة من تلك المطابع الجديدة في صحيفة فيلادلفيا العامة، حيث علقت قدمه وسُحقت بحزام الطابعة عندما حاول رَكل إحدى البكرات وذلك بسبب سرعتها الفائقة، فأصيبت قدمه بالغرغرينا وتوفي خلال عملية بتر ساقه عام 1867. وبذلك كانت وفاة ويليام بولوك أثناء اعتنائه باختراعه الذي ساهم من خلاله بتسهيل أعمالنا وتطويرها.
إن السعي لتحقيق الهدف هو سمة مشتركة بين العلماء جميعهم، لكن قد يزيد الشغف أو ينقص بتحقيقهم مرادهم والوصول لنهايات بحثية تشفي صدورهم، منهم من كان الحظ العاثر حليفه بعد أن استمات في سبيل اختراعه لدرجه عمياء وآمن به وأمن له، ليلقى حتفه فداء لهذا الاختراع وخدمة لمن سيحققون الاستفادة منه على مر الأجيال اللاحقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن