ثقافة وفن

وجه أميركا الحقيقي

| د. اسكندر لوقا

لم يكن الشرق الأوسط يوماً بعيداً عن «عناية» الولايات المتحدة الأميركية، إلى حد التدخل في شؤونها الداخلية بنواياها الطيبة! لهذا الاعتبار ترسم للدوائر التابعة لها سياساتها وبينها بذل الجهد لتعميم «مبادئ الديمقراطية» في الدول الواقعة في منطقة الشرق الأوسط على أقل تقدير. ومن هنا بدأت واشنطن تنظر إلى دول منطقة الشرق الأوسط من خلال التطورات التي تتراءى لها على شاشة المستقبل.
ولهذه الاعتبارات أيضاً أعلنت وزارة الخارجية الأميركية في السادس عشر من شباط من عام 1944 أن المنطقة مقبلة، بعد الحرب، على تحولات جذرية في تركيب بنيانها السياسي والاجتماعي. وهذا ما دفع بوزير خارجيتها سمنر وولز إلى القول بأن بلاده سوف تجد نفسها، بعد الحرب، في صميم الصراع الذي سيلفها من كل جانب، وسوف تعمل جاهدة لإرساء المبادئ الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، مدعيا، في الوقت نفسه، بأن هذه السياسة لا تتعارض في أي حال من الأحوال مع عزم حكومته على تأييد فكرة إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين!
هذه القناعة سادت في الأوساط السياسية الأميركية إلى حين قيام الكيان الصهيوني في فلسطين وبعده وإلى وقتنا هذا. كما سادت نظرية العداء لأي مقاربة تجري بين الولايات المتحدة الأميركية والعرب، إلا في حال كان العرب أوفياء للأميركيين ومطيعين لإرادتها. وثمة أكثر من دليل على عداء الولايات المتحدة الأميركية لكل من يتخطى هذا التحذير ويتحدث بكلمات ولو قليلة عن حق العرب في السعي لتحرير بلادهم من المستعمر الأجنبي أو نفوذ الغرب اللامتناهي في بلادهم.
مثال على ذلك ما هو معروف عن الرئيس الفرنسي جورج بومبيدو الذي اختار ميشيل جوبير وزيرا لخارجية حكومته وهو من الفرنسيين القلائل الذين يفهمون النفسية العربية فضلا عن إجادته اللغة العربية ما ساعد، حينئذ، على توجيه سياسة حكومته حيال أزمة الشرق الأوسط، كما يذكر في كتابه «مذكرات من أجل المستقبل» الذي يقول فيه بالحرف «خلال وبعد حرب تشرين 1973 وصلتني رسائل من الولايات المتحدة وفيها شتائم ضدي وضد سياستي للتقارب مع الدول العربية وكنت أبعث إلى هؤلاء صور كيسنجر وهو يعانق بحرارة وزير خارجية مصر إسماعيل فهمي وكان بعض هؤلاء المنتقدين يكتبون إليّ معتذرين».
وبطبيعة الحال، الظروف اختلفت جذرياً بعد عام 1973، عام اختيار ميشيل جوبير وزيراً لخارجية فرنسا، وها نحن في صميم التحولات الجذرية في تركيب البنيان السياسي والاجتماعي لدول منطقة الشرق الأوسط، فضلاً عن تعميق الصراع الذي لفها من كل جانب. ودائماً يعود «الفضل» إلى زعماء أميركا الذين يعملون جاهدين لإرساء مبادئ «الديمقراطية» في بلادنا والذين تزداد وضوحاً وجوههم سنة بعد سنة منذ عام 1973 حتى الساعة. وهذا ما يذكرنا بقول الفيلسوف اليوناني القديم الكسندروس [1729 – 1786] عن الازدواجية في سلوك المرء صغيراً كان أم كبيراً، بقوله: كل ما لا يوحد بين القول والفعل في حياتنا هو ضرب من العبث في خدمة البشرية». فما الذي يبرهن على عكس هذه المقولة في سياق التعرف إلى طبيعة سياسة الولايات المتحدة وخصوصاً في الوقت الراهن؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن