قضايا وآراء

على مفترق طرق..

| عبد المنعم علي عيسى

يُقرأ التوافق الأميركي الروسي الذي أفضى مؤخراً إلى اتفاق ميونيخ 22/2/2016 ومن ثم إلى القرار 2268 الصادر من مجلس الأمن بتاريخ 22/2/2016 أيضاً، في بعده الأعمق على أنه نفاذ لمنطق الكبار أدى في لحظة توافق سياسية حرجة إلى تهميش الصغار وإلى إلغاء طموحاتهم ممن يسمون باللاعبين الإقليميين، وإذا ما قورنت هذه النظرة السابقة بالعلاقة فيما بين (الدولي) و(الإقليمي) عندها يمكن أن نتوصل إلى رسم مشهد الحاضر بل مشهد الآتي أيضاً على الرغم من أن تلك العلاقة غالباً ما تكون معقدة ومتشابكة يصعب فيها تحديد الحدود الفاصلة (أو الجامعة) التي يمكن أن تتقاطع فيها (أو تتضارب) مصالح أحد الطرفين مع الآخر، أو التخوم التي يستدعي تخطيها عقاباً أقله هو التحجيم فيما يمكن له أن يصل حدود التدمير بل التفكيك أيضاً إذا ما تطلبت الحاجة ذلك، ولعلنا نسترشد هنا بمثال لم تزل سخونته حاضره إلى اليوم، عندما عمل الغرب (الأطلسي) على استغلال طموح زعيم إقليمي هو صدام حسين في إقامة دولة كبرى تمتد بين اللاذقية في أقصى الغرب إلى البصرة في أقصى الشرق، للقيام بتدمير ممنهج للدولة العراقية وبالتالي إخراجها من المعادلات العسكرية القائمة في المنطقة ولربما لتفكيك الجغرافيا العراقية الأمر الذي يشكل حالياً حقيقة موجودة على الأرض وإن كان ذلك غير معلن حتى الآن.
يرمز إصدار القرار 2268 إلى لحظة تاريخية نادرة في عمر الأزمة السورية وهو على الرغم من احتوائه على الكثير من المطبات والكثير مما يتطلب شرحه فإنه يبقى أرضية يمكن لها أن تتصلب أكثر لكي تكون قادرة على حمل وزر الماضي والحاضر والانطلاق نحو المستقبل الجديد.
لم يكن من الصعب لحظ رجحان الكفة الروسية في المحطات الأربع التي سبقت القرار 2268 فالنصوص وحدها يمكن أن تبرز ذلك الرجحان، وقد يكون من الجائز المجازفة بالقول إن تلك المحطات قد جاءت متناغمة بشكل كبير مع الإرادة الروسية في مسعاها لربط المسارين السياسي والعسكري في رباط واحد الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى استعادة الحكومة السورية زمام المبادرة من جديد على كامل جغرافيتها قياساً إلى خرائط السيطرة العسكرية، كذلك ظهرت الأرجحية الروسية في البند الذي ورد فيه توصية أممية تقضي بوجوب العودة غداة العمل على تشكيل وفود المعارضة السورية انطلاقاً من اجتماع القاهرة مروراً باجتماعات موسكو وصولاً إلى لقاء الرياض، وتلك إشارة موجهة إلى المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا بأن عليه أن يجبّ القدور الثلاث السابقة للخروج بوفد مقنع للمعارضة السورية بعدما كان واضحاً أن دي ميستورا يميل وبشكل فاقع على قِدْر الرياض دون غيره.
في رصد هذه اللحظة السياسية والعوامل التي أفضت إليها، يمكن القول بأن واشنطن سعت من وراء ذلك التوافق مع الروس إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هياكل المعارضة السورية قبل أن يطولها التدمير، فهي وإن كانت قد أعطت الضوء الأخضر لموسكو في عاصفة السوخوي إلا أن ذلك الضوء لم يكن محدداً في توهجه ولا في المكان الذي يجب أن يصل إليه، ولعلنا نستطيع القول إن النتائج التي حققتها عاصفة السوخوي صادمة للأميركان سواء أكان في سرعتها أو في المكاسب المتأتية منها، ومع ذلك فإن هذا ليس كل الموقف الأميركي ولا بد من مرحلة «صبر سياسي» لكي يتبين بوضوح العمق الأميركي وإلى أين يريد الوصول.
مما سبق يمكن القول إن المرحلة المقبلة تتضمن عنوانين عريضين الأول: هو تضافر الجهود الإقليمية والدولية باتجاه الحرب ضد الإرهاب وصولاً إلى هزيمته مهما تكن التكاليف والثاني: قيام مفاوضات يمكن أن يشكل قرار وقف إطلاق النار أرضية مناسبة للخروج بحلول سياسية ترضي الجميع، فيما عدا ذلك فإن كل ما يمكن اقتراحه من حلول لن يكون أكثر من محاولات قد لا تنفع بل تضرّ، فلو جاءت التسوية على حساب المحور السوري الإيراني الروسي فإن ذلك يعني شيئاً واحداً هو انتهاء الدور الروسي في المنطقة وبشكل كامل وهو ما لا يمكن للقيادة الروسية قبوله فهي لم تأتِ بقواها العسكرية لكي تخرج مهزومة مع مكاسب سياسية صفر، ولو جاءت التسوية على حساب المحور الأميركي الخليجي التركي فإن ذلك يعني أيضاً انتهاء الدور الأميركي في المنطقة وكلا الافتراضين يمثلان حالة لا تحتملها الوقائع أو الحقائق على الأرض.
تعاطت موسكو مع الأزمة السورية بعين ثاقبة تضع نصب رؤياها تجارب التاريخ في المنطقة أو في أوروبا ظهر ذلك في طبيعة المعركة التي تخوضها فهي لم تكن تريد الذهاب إلى معركة كسر عظم كما يقال بل استخدمت القوة العسكرية لإنضاج حلول سياسية يرضى بها الجميع، هي المدركة جيداً للتجارب التي كانت هي مسرحها والتي أدت إلى دفع فواتير باهظة الأثمان على امتداد القرن العشرين المنصرم، فاتفاق فرساي (1919) الذي أنهى الحرب العالمية الأولى (1914– 1918) والذي اضطرت فيه ألمانيا لتقديم تنازلات كبيرة كان من الصعب التعايش معها ليصبح اتفاق السلام (فرساي) اللبنة الأولى في قيام الحرب العالمية الثانية (1939–1945) بل كان يمثل القطبة الأولى في نسيج النازية التي سرعان ما اعتلت عرش برلين في عام 1933 لتؤسس للرايخ الثالث الذي أعلن حربه على العالم بأسره عبر استنهاض شعور عميق في الذات الألمانية يقود إلى النهوض من جديد وإزالة بنود فرساي الظالمة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن