قضايا وآراء

حين غابت القضية…!

| القاهرة – فارس رياض الجيرودي

عملت آلة إعلامية مكونة من مئات القنوات والصحف والمواقع الالكترونية الخليجية والعربية والعالمية خلال السنوات الخمس الأخيرة على تصنيع قضية إنسانية تبرر الحرب الوحشية اللامباشرة التي شنتها على سورية أنظمة إقليمية تعمل في خدمة الإستراتيجيات الأميركية، فتم في البداية تسويق رواية النظام الذي يقتل شعبه، والشعب الذي يبحث عن حريته، وراهن مخططو الحرب الناعمة على سورية بقوة على أدوات تكنولوجيا الاتصال الحديثة من حاسبات وموبايلات متصلة بشبكات النت لإنجاح مخططهم، لكن للمفارقة عملت الأدوات الحديثة تلك بالمحصلة النهائية في الاتجاه المعاكس تماما لما أرادوه، فقد وثق من يسمون بالثوار بموبايلاتهم تظاهراتهم الهزيلة التي كان الكثير منها يبث على الهواء مباشرة على قناة الجزيرة مباشر، وترتفع فيها حدة الهتافات والشتائم لساعات دون أن تقابل بالرصاص، ودون أن تتحول في الوقت نفسه لتظاهرات حاشدة كما هو المفترض في الثورات الشعبية، ودون أن يصل حجمها إلى حد يسمح بمقارنتها بالتظاهرات المؤيدة للدولة، والتي كانت تجري في وقت متزامن، وتبث القنوات العربية والعالمية مشاهد قليلة منها على استحياء، في حين تفرد ساعات طويلة لتجمعات بالعشرات لـ«الثوار» في قرية هنا وبلدة هناك.
بل إن الثوار المفترضين وثقوا بموبايلاتهم وبأنفسهم جرائمهم الوحشية التي ارتكبوا الكثير منها منذ بدايات الأزمة خلال ما سمي مرحلة (الحراك السلمي)، فقد أغدقت الدول الإقليمية التي قامت بتنظيم الحراك منذ بداياته بالسلاح والمال على كل من هو مستعد لقتال دولته الوطنية من السوريين بما في ذلك على المجرمين والمهربين والهاربين من سلطة القانون، لكن وبالنتيجة النهائية، لم تنجح الإدارة الأميركية الحالية في أن تعثر على جسم شعبي معارض حقيقي مستعد لبذل الدماء في حرب مع الدولة السورية وجيشها عدا الجماعات المتطرفة المؤدلجة بالثقافة الوهابية التكفيرية، واعترف بهذه النتيجة الرئيس الأميركي باراك أوباما عندما صرح بعد سنوات من اندلاع الأزمة بأن إسقاط حكومة الأسد عبر معارضة معتدلة ما هو إلا نوع من «فانتازيا».
لقد سقطت قضية ما سمي بالثورة من أجل الديمقراطية في سورية سقوطاً مدوياً، مع تصاعد الممارسات الوحشية التي نقلتها كاميرات المسلحين أنفسهم، هؤلاء الذين وصفهم وزير الخارجية الفرنسي السابق لوران فابيوس خلال لقائه معهم على الحدود التركية السورية بمقاتلي الحرية، وفي مفارقة دالة تحول أحد من بثت القنوات العالمية مشهد مصافحة فابيوس له (الليبي مهدي الحاراتي) إلى قائد في جبهة النصرة (فرع القاعدة في سورية)، ومن ثم إلى قائد في «داعش»، وأخيراً إلى قائد تنظيم «داعش» في ليبيا على المتوسط، حيث امتدت جرائم الإرهابيين الذين حشدوا لمقاتلة سورية وجيشها لتصل الضفة الأخرى من المتوسط إلى باريس نفسها، ليشكل مشهد المصافحة دليل إدانة موثقاً للسياسات الفرنسية تجاه سورية أمام الرأي العام الغربي والنخب المثقفة الغربية التي عجزت رغم كل الضخ الإعلامي عن التماهي مع قضية ما سمي بالثورة السورية.
ومع مضي الزمن دون النجاح في إسقاط الدولة السورية أو فرض السيطرة على مدنها الأساسية بسبب بقاء الكتلة الأوسع من الشارع السوري خلف دولته الوطنية وجيشها، عملت الآلة الإعلامية الضخمة الممولة خليجيا التي وقفت وراء الحرب على سورية على ترميم روايتها السابقة بكل السبل، فروجت لذريعة أن تدخل حزب اللـه ومتطوعين من دول عربية وخبراء إيرانيين هو الذي حال دون سقوط الدولة السورية، متجاهلةً أن نسبة المتطوعين المقاتلين من غير السوريين مع الجيش العربي السوري لم تتجاوز في أكثر التقديرات مبالغةً الـ5% من مجموع المقاتلين المدافعين عن المدن السورية في وجه موجات الإرهابيين الذين جمعتهم المخابرات التركية من أصقاع الأرض، مستفيدة من شبكة العلاقات التي بنتها في بلدان مسلمي وسط آسيا، وذلك في إطار التحضير للدور الإمبراطوري الذي أعلن صموئيل هنتغتون في اسطنبول عام 2004 أنه أعطي لتركيا في العالم الإسلامي كبديل عن انضمامها للاتحاد الأوروبي.
لقد واجه الجيش العربي السوري أكبر حشد من الإرهابيين المنتمين لما يسمى السلفية الجهادية، هؤلاء الذين تمتد جذور تجربتهم القتالية إلى معارك أفغانستان والبوسنة وكوسوفو والشيشان والعراق، والذين أثبتوا في معاركهم السابقة شراسةً مكنتهم من الصمود في وجه الجيشين المسلحين بأحدث تكنولوجيا السلاح في العالم (السوفييتي في أفغانستان والأميركي في العراق)، ورغم أن عدد الإرهابيين في التجربة السورية وحسب تقارير مراكز الأمن الدولية فاق مجموع كل المقاتلين في التجارب السابقة، ورغم أنهم حظوا بدعم تسليحي ومالي وإعلامي لم يحظوا بمثله في معاركهم السابقة، ورغم أن غالبية دول الجوار لسورية (تركيا والأردن وإسرائيل وإلى حد ما لبنان) تورطت جميعها في تقديم الدعم اللوجستي لهم وبتوفير خطوط الإمداد وقواعد الانطلاق، إلا أن هؤلاء أخفقوا في تحقيق المطلوب منهم، فبقيت مدن سورية الرئيسية عدا اثنتين (إدلب والرقة) في يد الدولة السورية، التي حافظت على سيطرتها على أكثر من 90% من مطارات سورية وعلى كامل موانئها البحرية، واستمرت طائراتها في التحليق في كامل الأجواء السورية رغم كل التهديدات بتطبيق مناطق الحظر الجوي، وذلك كله إلى ما قبل مرحلة التدخل العسكري الروسي.
وكان على العالم أن يواجه في حال نجحت الحرب الكونية على سورية وضعاً تقوم الإدارة الأميركية فيه (بالتحالف مع المال الخليجي) بتحريك الثورات في أي بلد لا تتوافق سياساته معها، وذلك عبر تمويل وتسليح الإرهابيين والكارهين للنظام في ذلك البلد، ودعمهم بموجات الإرهابيين من خارج الحدود، وهو في الواقع نموذج أكثر نجاعةً من نموذج دعم الانقلابات العسكرية الذي كانت تتبعه «السي أي إيه» في الخمسينيات، ولعل هذا ما يفسر لنا الدافع الإستراتيجي وراء وقوف مثل روسيا والصين وإيران مع الدولة الوطنية السورية في معركتها.
وعندما بدأ الدعم الجوي الروسي للجيش العربي السوري أصبح واضحاً أن المشروع الإرهابي في سورية يدخل مرحلة الاحتضار، لذلك استنفرت الآلة الإعلامية الداعمة له وبدأت بالترويج لقضية ما سمته الاحتلال الروسي، ودعمت ذلك بالفتاوى الصادرة عن رجال الدين العاملين في البلاطين السعودي والقطري، في محاولة لاجتذاب المزيد من المقاتلين من أنحاء العالم الإسلامي، لكن سرعة الانهيار المفاجئة لجموع المقاتلين على الأرض السورية، وتسليمهم البلدات والمواقع بلا قتال في كثير من الأحيان، تبدو وكأنها تسقط كل فرصة لتسويق نظرية بلد محتل وشعب يقاوم لتحرير بلاده، فمجموع الطائرات الروسية العاملة في الأرض السورية لم يتعد 38 طائرة نفاثة، وهو عدد لا يقارن بسلاح الجو الإسرائيلي الذي عمل في تموز عام 2006 بكامل طاقته على رقعة معركة أصغر بكثير من الرقعة التي يعمل عليها الطيران الروسي، فجنوب لبنان لا تتعدى مساحته عشر مساحة ريف حلب وحده، ومع ذلك لم نر في ريف حلب ولا في درعا وريفها أو في غيرها من مواقع المواجهة بين الجيش العربي السوري وبين الإرهابيين مواقع للجماعات المسلحة صمدت كصمود بلدة بنت جبيل عام 2006، أو كصمود غزة خلال حروب إسرائيل المتتالية عليها، وذلك رغم أن الحدود التركية والأردنية في الحالة السورية مفتوحة على مصراعيها لعبور السلاح والإرهابيين لدعم الجماعات التي تقاتل الدولة الوطنية السورية، ورغم التمويل الخليجي اللامحدود لتلك الجماعات، حيث تبلغ كلفة صاروخ التاو الأميركي 250 ألف دولار، وقد أدى إغراق السعودية وقطر للإرهابيين بكميات هائلة من هذا النوع من الصواريخ إلى تدني مستوى الأهداف التي باتوا يستعملونه لتدميرها، فبدلا من إطلاقه على الدبابات (الهدف الطبيعي له) أصبح يستخدم لتدمير مدفع دوشكا لا يتعدى ثمنه 1000 دولار.
عوضاً عن الصمود فضل الإرهابيون الذين حرقوا واغتصبوا وسرقوا صوامع القمح وآبار النفط خلال السنوات الماضية أن يفروا باتجاه تركيا في مشهد شبيه بفرار جيش لحد باتجاه إسرائيل عام 2000، متذرعين لتبرير هزيمتهم بوجود مؤامرة عالمية عليهم، وبخيانة داعميهم، مستدلين بعدم تزويدهم بصواريخ قادرة على إسقاط الطائرات، وكأن ثوار حرب العصابات خلال التجارب الثورية في التاريخ من الصين لكوبا للجزائر إلى فيتنام اعتمدوا خلال ثوراتهم على تحقيق السيطرة الجوية، وليس على الحاضنة الشعبية وعلى القدرة على بذل الدماء، في الواقع وبغض النظر عن الدعاية المبالغ بها التي روجت لصاروخ ستينغر خلال حرب أفغانستان ليس هنالك من صاروخ محمول على الكتف يستطيع إسقاط المقاتلات النفاثة ولا حتى المروحيات، فأنت تحتاج لتحقيق ذلك إلى شبكة رادارات وقواعد إطلاق صواريخ، وهذا ما لا تستطيع أن تستخدمه إلا الجيوش المحترفة، وإلا فإنه سيدمر فور دخوله ساحة القتال.
على أي حال لم يكن الصاروخ المضاد للطائرات هو ما ينقص مقاتلي ما يسمى الثورة السورية، بقدر ما كانت تنقصهم القضية العادلة، فهم بدؤوا بإخلاء مواقعهم بمجرد أن أيقنوا أن وعود داعميهم بالتدخل جوياً كما في ليبيا قد ذهبت أدراج الرياح بعد سنين طوال من الانتظار، وربما هذا ما يفسر لنا الدوافع الحقيقية للتصريحات السعودية التركية الأخيرة التي يبدو أنها تهدف لشد أزر الإرهابيين عبر إحياء آمالهم بإمكانية التدخل المباشر لدعمهم، أكثر مما تعبر عن نية حقيقية بتنفيذ ما لم تتجرأ تلك الدول على الإقدام عليه في مراحل سابقة من مراحل الصراع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن