ثقافة وفن

عاش عاشقاً ومناصراً للمرأة … نزار قباني .. الشاعر الذي ﻻ يتقن من مهن الدنيا سوى الحب

| وائل العدس

مرت أول من أمس الذكرى الثالثة والتسعون على ميلاد الشاعر السوري الكبير نزار قباني الذي نحتفل بميلاده دائماً بالتزامن مع الاحتفال بعيد الأم، وهى إحدى المصادفات الغريبة لأن نحتفل بميلاد شاعر المرأة في عيد كل امرأة وكل أم، فطالما اهتم قباني بمغازلة المرأة ووضعها في مكانة رفيعة وذكرها بأجمل الصفات وأعذب الأشعار.
واهتمت الصحف العربية ووسائل الإعلام بالاحتفال بذكراه لأنه لا يمثل حالة شعرية منفردة بل مثّل جيلاً بأكمله أثر فيه بأشعاره الرومانسية والسياسية وكانت لقصائده البليغة المنظومة باللغة العربية أهمية كبيرة في رقي الأغنية العربية والذوق العربي، فكان شاعراً لكل الأزمنة، ومازالت قصائده تغنى حتى الآن من ألمع نجوم الغناء.
ولد نزار في دمشق القديمة، وكان منزله يمتلئ بالزروع الشامية من زنبق وريحان وياسمين، وهو ما خلف في نفسه حب الرسم، وكذلك عشق الموسيقا، وخاصة العزف على العود، ثم وجد الشعر طريقه إلى روحه فبات يحفظ أشعار عمر بن أبي ربيعة، وطرفة بن العبد، وقيس بن الملوح، وتتلمذ على يد الشاعر خليل مردم بك.
من أنا؟
كتب نزار قباني يتحدث عن نفسه وتجربته مع الشعر، فقال تحت عنوان «من أنا؟»: «سأوفر عليكم الوقت، وعذاب طرح الأسئلة، وأقول لكم إنني شاعر قرر بينه وبين نفسه في الأربعينيات أن يشعل اللغة من أول نقطة حبر حتى آخر نقطة حبر، ويشعل الوطن الممتد من البحر إلى البحر ومن القهر إلى القهر».
وأضاف: «خريطة الأشياء لم تكن تعجبني ولخبطتها، أردت أن أكتب شعراً يحمل توقيعي وحدي، وحلمت أن أكتب قصيدة لحسابي الخاص من دون أن أسحب أي قرش من ميراث العائلة».
وتابع، «من أنا؟ أنا شاعر لايزال يفتش عن الحرف التاسع والعشرين في الأبجدية العربية، أحاول التنقيب عن الماء في النصوص التي جف فيها الماء من كثرة الشاربين».

شاعر المرأة
«كتبت بقصائدي تاريخ النساء، وقد أعطيت المرأة هذه المساحة الكبيرة من وقتي ومن عمري ومن دفاتري، لأن الكاتب يبقى وسيماً أنيقاً مادام موجوداً في كنف المرأة، وفي حمايتها، وحين ترفع يدها عنه يشيخ عشرة آلاف سنة في سنة واحدة، وينتحر كالفيل الإفريقي من شدة الضجر والترهل والغلاظةـ إنني أعتبر نفسي مسؤولاً عن المرأة».
هكذا يقول الراحل نزار قباني أشهر الشعراء العرب في العصر الحديث، الذين ارتبط اسمهم بحواء، وارتبطت هي بهم، ولاسيما أنه عبر بصدق شديد، وغير مسبوق عن إحساس المرأة، وبشكل يفوق قدرتها هي على التعبير عن مشاعرها التي حرصت على إخفائها حتى جاء هو لتبصر النور معه.
وقد كانت المرأة لنزار قصيدة العمر، أنشودة الوجود، ورحيق الحياة، الذي كان يرتشفه لتأخذه نشوة ما بعدها نشوة سرعان ما ينتبه بعدها وفي فمه كلمات ساحرة ترقص لها المشاعر، وتطرب لها الأحاسيس، فحفظ الناس قصائده، وتغنوا بها، وأهدوها لمحبيهم.
نزار المحب للمرأة أماً كانت أم محبوبة حاول رسم مدينة حب، باحثاً عن بلاد تسمح له أن يمارس فعل الهوى، ككل العصافير فوق الشجر، طالباً من حبيبته أن تكون جريئة وتختار الموت فوق صدره أو فوق دفاتر أشعاره.
وصف نفسه بأنه مفضوح بالشعر وأن عشيقته مفضوحة بكلماته، وأنه ما دام يمتلك حبيبته فهو القيصر، الذي ﻻ يتقن من مهن الدنيا سوى الحب، طالباً من المرأة الشرقية أن تثور على شرق السبايا والتكايا والبخُورِ والتاريخ.
فعاش عاشقاً ومناصراً للمرأة وللحب، غرست الأحداث التي عايشها في حياته الشعر والحب في نفسه، فخلال طفولته انتحرت شقيقته، بعد أن أجبرها أهلها على الزواج من رجل لم تكن تحبه، ليصبح ذلك الحادث سلاحاً يقاوم به مع المرأة الشرقية كي تحقق ذاتها، قائلاً عن موت أخته: «صورة أختي وهي تموت من أجل الحب محفورة في لحمي».

نزار وأمه
في ذكراه المترافق مع يوم الأم، نستعيد كلماته تحية لكل أم في كل ربوع الوطن العربي حيث قال في كلمات في خمس رسائل تعبيراً عن حبه إلى أمه:
صباح الخير يا حلوه..
صباح الخير يا قديستي الحلوه
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر
برحلته الخرافيه
وخبأ في حقائبه
صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهرها، وكل شقيقها الأحمر
وخبأ في ملابسه
طرابيناً من النعناع والزعتر
وليلكةً دمشقية..
أنا وحدي..
دخان سجائري يضجر
ومني مقعدي يضجر
وأحزاني عصافيرٌ..
تفتش –بعد- عن بيدر
عرفت نساء أوروبا..
عرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب..
وطفت الهند، طفت السند، طفت العالم الأصفر
ولم أعثر..
على امرأةٍ تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها..
إلي عرائس السكر
وتكسوني إذا أعرى
وتنشلني إذا أعثر
أيا أمي..
أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر
وما زالت بخاطره
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً..
ولم أكبر؟
صباح الخير من مدريد
ما أخبارها الفلة؟
بها أوصيك يا أماه..
تلك الطفلة الطفله
فقد كانت أحب حبيبةٍ لأبي..
يدللها كطفلته
ويدعوها إلى فنجان قهوته
ويسقيها..
ويطعمها..
ويغمرها برحمته..
.. ومات أبي
وما زالت تعيش بحلم عودته
وتبحث عنه في أرجاء غرفته
وتسأل عن عباءته..
وتسأل عن جريدته..
وتسأل– حين يأتي الصيف-
عن فيروز عينيه..
لتنثر فوق كفيه..
دنانيراً من الذهب..
سلاماتٌ..
سلاماتٌ..
إلى بيتٍ سقانا الحب والرحمة
إلى أزهارك البيضاء.. فرحة «ساحة النجمة»
إلى تختي..
إلى كتبي..
إلى أطفال حارتنا..
وحيطانٍ ملأناها..
بفوضى من كتابتنا..
إلى قططٍ كسولاتٍ
تنام على مشارقنا
وليلكةٍ معرشةٍ
على شباك جارتنا
مضى عامان.. يا أمي
ووجه دمشق،
عصفورٌ يخربش في جوانحنا
يعض على ستائرنا..
وينقرنا..
برفقٍ من أصابعنا..
مضى عامان يا أمي
وليل دمشق
فل دمشق
دور دمشق
تسكن في خواطرنا
مآذنها.. تضيء على مراكبنا
كأن مآذن الأموي..
قد زرعت بداخلنا..
كأن مشاتل التفاح..
تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء، والأحجار
جاءت كلها معنا..
أتى أيلول يا أماه..
وجاء الحزن يحمل لي هداياه
ويترك عند نافذتي
مدامعه وشكواه
أتى أيلول.. أين دمشق؟
أين أبي وعيناه
وأين حرير نظرته؟
وأين عبير قهوته؟
سقى الرحمن مثواه..
وأين رحاب منزلنا الكبير..
وأين نعماه؟
وأين مدارج الشمشير..
تضحك في زواياه
وأين طفولتي فيه؟
أجرجر ذيل قطته
وآكل من عريشته
وأقطف من بنفشاه
دمشق، دمشق..
يا شعراً
على حدقات أعيننا كتبناه
ويا طفلاً جميلاً..
من ضفائره صلبناه
جثونا عند ركبته..
وذبنا في محبته
إلى أن في محبتنا قتلناه…

عشق نزار
للأحداث الجسام التي مر بها نزار أثرها في نفسه وفي شعره، فتزوج مرتين، زوجته الأولى كانت ابنة خاله وأنجب منها هدباء وتوفيق، توفي توفيق عام 1973 وكان طالباً بكلية طب جامعة القاهرة في السنة الخامسة، ونعاه والده بقصيدة «الأمير الخرافي توفيق قباني» وتوفيت زوجته في عام 2007.
أما زوجته الثانية فهي عشق حياته العراقية بلقيس الراوي، التي التقاها في أمسية شعرية ببغداد، أنجب منها عمر وزينب، قصة حبهما ذاع صيتها وخاصة بعد أن ﻻقت حتفها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية في حادث تفجير السفارة العراقية عام 1982، وفي رثائها كتب نزار بدموعه قصيدته «بلقيس» الذي يقول في مطلعها:
شكراً لكم..
شكراً لكم..
فحبيبتي قتلت.. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيده
وقصيدتي اغتيلت..
وهل من أمةٍ في الأرض..
• إلا نحن- تغتال القصيدة؟
بلقيس…
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس..
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي..
ترافقها طواويسٌ..
وتتبعها أيائل..
بلقيس.. يا وجعي..
ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل
هل يا ترى..
من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن