قضايا وآراء

من سورية إلى ناغورني كاراباخ- إدارة الصراع واحدة!!

| د. بسام أبو عبد الله 

يخطئ من يعتقد أن ما جرى من خرق فاضح للهدنة في ريف حلب، واشتعال جبهة (ناغورني كاراباخ) هما أمران منفصلان، ذلك أن المسرح الاستراتيجي للعمليات واحد، ومن يدير هذه العمليات واحد، وبالتالي لا يمكن قراءة الحدث السوري بمعزل عن النظرة العامة لهذا المسرح الذي يعمل الغرب على إدارته لتحقيق مصالحه الاستراتيجية.
قرار خرق الهدنة بشكل فاضح وواضح في ريف حلب جاء بناء على إرادة أميركية بالتنسيق مع حلفائها ذلك أن هجوم الجماعات الإرهابية بمختلف تسمياتها (النصرة ومشتقاتها) جاء بعد الانتصار الإستراتيجي الذي حققه الجيش العربي السوري في تدمر، والقريتين، وبدء الحديث عن التوجه نحو دير الزور والرقة، الأمر الذي شكل صدمة لدى واشنطن وعواصم الغرب وأزعجهم، لأن ذلك يعني هزيمة لجيوش الإرهاب، والتوحش الذي يقودها الناتو، من خلال أدواته في (تل أبيب، الرياض، أنقرة، الدوحة) فكان لا بد من الرد السريع على هذا الانتصار التدمري من أجل إعطاء وفد الرياض دفعة ميدانية على الحساب قبل جولة التفاوض القادمة في جنيف، حيث كان واضحاً أن واجهات الناتو مما يسمى (معارضة سورية) قد بدأت تتساءل عن ماهية التفاهمات الروسية- الأميركية (تصريحات عضو جماعة بيلدربيرغ بسمة قضماني) وكلام رياض حجاب عن عدم وجود أمل في التفاوض مع الدولة السورية- أي بمعنى أنه من دون إنجازات ميدانية لجيوش الإرهاب لا إمكانية لتحقيق منجزات سياسية لتثبيت، وإدخال عملاء الغرب لداخل منظومة الحكم في سورية، وترافق ذلك مع تصريحات لافتة لسفير الولايات المتحدة في موسكو عن الرئيس الأسد، ورحيله عاجلاً- أم آجلاً، ورفض قيادته لما يسمونه (مرحلة انتقالية)، وهي تصريحات كان يطلقها عادل الجبير نيابة عن أميركا، أو أحد صعاليك وفد الرياض..
بالمجمل فإن اتفاق الهدنة الروسي الأميركي الذي ثُبت في قرار لمجلس الأمن الدولي (القرار 2268) تحول على ما يبدو إلى فرصة لإعادة ترتيب أوراق جماعات الإرهاب- والتوحش، وإدخال إرهابيين جُدد إلى صفوفها، وأما محاولة التضليل من بعض جماعات الإرهاب (المعتدل!!) الذين أقسموا أغلظ الإيمان بأنهم سوف يلتزمون بالهدنة- فإنها لم تكن إلا كذبة كبيرة أريد منها طمأنة الروس- والسوريين وحلفائهم إلى وجود جدية لدى الطرف الأميركي.. على الرغم من أن لافروف أطلق تصريحاً مشككاً عندما قال: (يبدو أن واشنطن لا تستطيع فرض تفاهماتها على حلفائها في أوروبا والمنطقة).
كلام لافروف جاء مهذباً، ذلك أنه لا أحد يمكن أن يقتنع أن واشنطن غير قادرة على فرض التفاهمات على حلفائها، فأردوغان الذي ذهب ذليلاً إلى واشنطن يتوسل لقاء أوباما ليس ذلك الشخص المرتاح لكي يرفض أوامر واشنطن، ومحمد بن سلمان الذي يعتبر أميركا (شرطي العالم) لا يزال يتوسل رضاها من أجل دعمه ضد غريمه محمد بن نايف الذين هو أيضاً ليس الشخص الذي يرفض أوامر (شرطي العالم كما يقول)، ولهذا فإن إدارة المسرح الإستراتيجي هي بيد واشنطن، وما محاولات إظهار (أوباما) على أنه (ضعيف) أمام وحوش في إدارته، وبين حلفائه ليست سوى مقاربة (خاطئة)، فالولايات المتحدة بعقلها البراغماتي، وأولوية مصالحها عبر التاريخ تُحمل المسؤوليات عن الفشل لأدواتها، أما هي فلا تتحمل أي مسؤولية، على الرغم من أن منظمات التوحش العالمية من إنتاجها ومن لدن مختبرات أجهزتها الاستخبارية.
وما كان ملاحظاً أن واشنطن لم تُرحب كثيراً بتحرير تدمر، على الرغم من قول الخارجية الأميركية (أنه أمر جيد!!) لأنها رأت فيه ضربة قاصمة لحليفها (داعش) الذي يستخدم أحدث أنواع التقنيات الغربية- والأميركية في الاتصالات، وتوجهه أقمار اصطناعية أميركية، الأمر الذي كُشف حين احتلال تدمر، وما يزيد القناعة أكثر أن تحريك جبهة النصرة ومشتقاتها في ريف حلب جاء إثر هزيمة (داعش) في تدمر والقريتين، الأمر الذي يؤكد أنه لا فرق إطلاقاً بين هذه المجموعات لأن من يديرها، ويستثمرها، ويحركها على الجبهات وفقاً لمصالحه هو الأميركي وأن الحديث عن (معارضة مسلحة معتدلة) ليس سوى كذبة كبيرة من أجل التضليل، وإضاعة الحقائق.
الآن ما علاقة كل ذلك بإشعال (جبهة ناغورني كاراباخ)؟
هنا لا بد من الإشارة إلى أهمية موقع إقليم (كاراباخ) الذي هو منطقة حبيسة أي إن حدوده هي من الشمال، والشرق مع أذربيجان، ومن الغرب مع أرمينيا، ومن الجنوب إيران، وإشعال هذه الجبهة ليست مصلحة أرمينية، ولا روسية، ولا إيرانية، ذلك أن طهران لا تريد بالتأكيد نيراناً مشتعلة في جنوبها، وأما موسكو فلها قاعدة عسكرية في أرمينيا وسوف تضطر للدفاع عن أرمينيا في حال نشوب حرب واسعة لأن يريفان دولة عضو في منظمة الأمن الجماعي، وفي الوقت نفسه فإن علاقاتها مع باكو عادت إلى حدِ ما للتوازن مع عدم حضور الرئيس علييف قمة الشراكة الشرقية للاتحاد الأوروبي، وطرح البرلمان الآذري لمشروع قانون يلغي العديد من الاتفاقات السابقة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي حقق لموسكو بعض التوازن في منطقة ما وراء القوقاز.
إذاً تبدو واشنطن المستفيد الوحيد من إشعال هذه الجبهة الجديدة في وجه موسكو، وطهران، اللتين حققتا مع حليفهما السوري نتائج ميدانية باهرة ضد من تسميه واشنطن عدوها (أي داعش)!!! ولذلك لابد من إشغال خصومها في جبهة أخرى لتضعهم أمام واقع جديد قرب حدودهم، ذلك أن عدم دعم موسكو لأرمينيا سوف يؤدي لانزياحها لطرف واشنطن، ووقوفها ضد أذربيجان سوف يجعلها تخسر في باكو أيضاً.
وللتأكيد أكثر فإن الرئيس الآذري إلهام علييف كان في واشنطن قبل اشتعال الجبهات في (كاراباخ) حيث التقى نائب أوباما (بايدن)، وأشاد علييف هناك بموقف أوباما الذي يتلخص في (عدم جواز استمرار الوضع الراهن في ناغورني كاراباخ!!!)، وإذا عُدنا قليلاً للوراء فإن الرئيس علييف سبق أن زار تركيا في 15/آذار/2016 حيث تمت مناقشة هذه المسألة على ما تقول وسائل الإعلام، كما أن موقف أردوغان العلني بدعم أذربيجان حتى النهاية، تشير بوضوح في ظل (الخطاب القومي المتطرف) له ضد الكرد، والأرمن- أنه يبحث عن دمار في مكان آخر لتثبيت موقعه الإقليمي في ضوء فهمه أنه سوف يخرج من المعادلة السورية خالي الوفاض، وبدلاً من مراجعة سياساته الخارجية الفاشلة يستمر بالسير خلف واشنطن لإشعال المزيد من الحرائق من سورية حتى ناغورني- كاراباخ.
إن ما سبق أن قلناه في مقالات سابقة على صفحات «الوطن» من أن انتصار سورية في معركتها الوطنية على جيوش التوحش الأطلسي الممثلة بداعش والنصرة- وأخواتهما هو انتصار للعالم المتحضر على ثقافة التوحش الوهابية- الإخوانية- الصهيونية، وهذه المعركة ليست عسكرية فقط، إنما هي سياسية، ودبلوماسية، وثقافية، وفكرية.. وعندما نفهم طبيعة الصراع، والخصوم نستطيع أن نمتلك مفاتيح النصر الآتي لا محالة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن