قضايا وآراء

«الجولاني» وإعلاميو «آل ثاني»: هل هو التأسيس لدولة الخلافة الثانية؟

فرنسا – فراس عزيز ديب:

 

في أيلول من العام 2005، أصدرت محكمة إسبانية حُكماً على مراسل قناة «آل ثاني» الإخبارية «تيسير علوني» بالسجن سبع سنوات بتهمة التعاون مع منظمة إرهابية وإساءة استخدام مهنة الصحافة، لإجرائه لقاء صحفياً مع ما يسمى زعيم تنظيم القاعدة «أسامة بن لادن». كان لافتاً يومها أن القناة كسبت من هذه المحاكمة إعلامياً الشيء الكثير بما فيه فرضية أنها قناة «مُحارَبة» من المحور الأميركي، مع العلم أن علوني قضى عقوبته ومنذ العام 2006 رهن الإقامة الجبرية في منزله بذريعة «وضعه الصحي».
في العام 2015، تُجري راعية «ربيع الدم العربي» ذاتها لقاء مع زعيمٍ «مفترض» لتنظيم إرهابي آخر ما هو إلا فرع لتنظيم القاعدة في بلاد الشام ومدرج على اللائحة العالمية للإرهاب؛ هو «أبو محمد الجولاني»، فيسود الصمت ونتساءل: أين أصحاب نظرية أن «تنظيم النصرة» هو من صنيعة «النظام»؟
في العام 2012، بثت مواقع إرهابية شريطاً صوتياً لـ«أبو محمد الجولاني» يعلن فيه انطلاق التنظيم رسمياً ومبايعته لتنظيم القاعدة، فخرج علينا معارض سوري اشتهر بمغامراته الجنسية المصورة ليعلن بأن من يسمع صوت «الجولاني» يُدرك أنه صوت «اللواء علي مملوك». يومها كان هناك قطيع بشري يهلَّل لهذا المعارض ولهذا الاكتشاف العظيم، كيف لا وهو يثبت لهم بما لا يدع مجالاً للشك (وعن معرفةٍ كما ادّعى) أن «النصرة» اصطنعها النظام لـ»تشويه الثورة» التي تحمل كل شيء إلا أغصان الزيتون!
في اللقاء الذي عرضته القناة، لولا أن هناك شخصاً مُغطى الوجه لما عرفنا أيُّهما «الجولاني المفترض»، كان هذا الأمر مكرمة لمقدم البرنامج فقط المنتمي أساساً لجماعة الإخوان المسلمين في مصر (والذي أهان يوماً الشعب السوري بكامله واتهمه بتقبيل حذاء عبد الناصر). لم تعد النصرة صنيعة النظام، بل هي مجموعة من «الثوار» تسعى لـ«إسقاط النظام»، فهل أن هذه المقابلة هي الأولى أم إن هناك ما قد سبقها يُثبت أن هذه القناة ليست أكثر من ذراعٍ إعلاميةٍ للإرهاب؟
في نهاية العام 2013 سربت مواقع معارضة معلومات عن لقاءٍ جمع العلوني بـ«أبو محمد الجولاني» في ريف إدلب، بل إن الأمر تعداه للحديث عن تسجيل مقابلةٍ سيتم بثها لاحقاً. يومها لم يكن هدف اللقاء فيما يبدو مجرد التنسيق بآلية «تطور الظهور الإعلامي» لجبهة النصرة على الساحة السورية، لكن الأمر تعداه لإمكانية دخول العلوني –بما يمثل من ثقلٍ إعلامي ذي مصداقيةٍ لدى الجماعات الإرهابية، وما يمثله من مصداقيةٍ لدى من يكلفه بالمهام- على خط إيجاد حل وسط بين الطرفين المتصارعين (النصرة وداعش) قبل أن يعلن البغدادي إطلاق دولة الخلافة الإسلامية. وصل الأمر يومها للحديث أن البيان الذي يتحدث عن تأسيس «نواة حركة التصحيح في الدولة الإسلامية» إنما هو بيانٌ كتبه العلوني وسجله بصوته مع إجراء بعض «المكساجات» بطلبٍ من الجولاني، بهدف كسب المنشقين عن البغدادي، وإيقاف النزيف البشري من جبهة النصرة تجاه «داعش». يومها كان هناك ضغط لعدم بث المقابلة والهدف كان واضحاً مرتبطاً أساساً بفيتو (تركي إسرائيلي) حاول كبح جماح القطريين منطلقاً من تبريرين أساسيين:
الأول، هو إعطاء المدى الأكبر لفرضية أن النصرة «من صناعة النظام»، تحديداً أن هذا الأمر قد يفيد وقتها أكثر من فرضية إظهار الجولاني وقيامه بتوجيه رسائل، وهو لا يملك شيئاً على الأرض باعتبار أن النصرة في ذاك التاريخ لم تكن تسيطر إلا على بعض القرى المترامية هنا وهناك، ذلك أن ظهور الجولاني إعلامياً سيعني تماماً سقوط سلاح تحميل «النظام» السوري مسؤولية ظهور الجماعات الإرهابية، وهو ما لم يحن وقته بعد.
الثاني هو –تحفظ- على شخص من أجرى اللقاء أساساً؛ فلا يمكن تقديم الجولاني وإرساله رسائل عابرة للأديان والطوائف، وهو ملتق بشخصٍ محكومٍ بتهمة التعاطي مع الجماعات الإرهابية.
لكن لماذا عادت الفكرة في هذا الوقت تحديداً للظهور؟!
للأسف لم نتمكن من رؤية صورة الخليفة، تماماً كما لم يُتح لنا الزمن أن نرى صورةً مقربةً لخليفة المسلمين الآخر أبي بكر البغدادي، على الأقل إذا فكرنا يوماً بأن نعلن «مبايعتنا» لأحدهما كي لا نشعر بأنفسنا وكأننا نبايع أشباحاً. كذلك الأمر يبدو كلام الجولاني هو صورة عملية عن تهديدات قيادات العدالة والتنمية في تركيا تجاه سورية، تلك التهديدات العملية التي قد تفضي انطلاقاً من صورة الفاتح التي يضعها أردوغان في مكتبه لتشكيل خلافة أردوغانية توازي الخلافة الداعشية.
بواقعيةٍ تامةٍ، وبالمقاربة مع المعطيات السابقة لا يمكن لنا النظر إلى هذه المقابلة والطريقة التي تم الإعداد لها وتوقيت بثَّها بهذه البساطة أو التسطيح، إلى أن وصلت درجة «الاستخفاف الإعلامي» لدى البعض بالاقتناع أن المقابلة وكلّ ما ورد فيها هي من بنات أفكار الجولاني. فمحاولة تلميع صورة «جبهة النصرة» يجب أن يقابلها حملة مكثفة لكشف جرائمها حتى باستعادة الجرائم القديمة التي ارتكبها التنظيم بحق المدنيين عندما كانوا يبررونها بأنها «تمثيليةٌ من النظام». كذلك الأمر فإن التأكيد أن هدف التنظيم ليس المحاربة خارج الحدود أمر يدحضه بيانات «أيمن الظواهري» الذي هو في النهاية المرجعية الدينية لـ«جبهة النصرة»، أمّا الحديث عن مغازلة الأقليات فما هو إلا محاولة للتمهيد لكل ما سيُقدم من دعمٍ في الأيام القادمة، فماذا ينتظرنا؟
غالباً ما بنيت السياسة الأميركية على سياسة تجميع الأوراق ليتم استخدامها فيما بعد، بالنسبة لهم لا تفرق إن كانت هذه الأوراق سيتم استخدامها ضد «التابع» أو ضد «العدو». في هذا السياق لا يمكن فصل ما جرى في الأيام السابقة من فضيحة اعتقال عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية للفيفا عما تبحث عنه الولايات المتحدة، تحديداً إذا ما عرفنا أن هذه الأمر تحت المجهر الأميركي منذ 2009، أي إن الأمر لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بمصير اللعبة الشعبية الأولى في العالم، بقدر ماله علاقة باللاعب الأول بمصير شعوب العالم. الجميع كان يعلم أن ملفات الفساد باتت أكبر من أن يتم إخفاؤها، لكن ما جرى هو تأجيلها لسببين؛ الأول هو حجم «رجال السياسة» المتورطين بما فيهم رؤساء دول، والثاني ترك الأمر كورقة ابتزاز بيد من يظن نفسه يملك أدوات تنفيذيةٍ لإثارتها وقت يشاء.
على سبيل المثال في فرنسا، فإن كل ما حصلت عليه مشيخة قطر من تسهيلاتٍ على جميع المستويات المتعلقة بالملفات الرياضية هو اللغز الذي لا يعرفه إلا اثنان؛ ميشيل بلاتيني ونيكولا ساركوزي وشيطان المال القطري ثالثهما. عاد ساركوزي للواجهة السياسية وسط توقعاتٍ بأن يكون في الدور الثاني في مواجهة لوبان في الانتخابات الرئاسية القادمة باعتبار أن الاشتراكيين باتوا تحصيلاً، فهل هناك من أراد ضرب عصفورين بحجر؟ الأول حرمان ساركوزي من العودة كي لا يشكل خطراً على هولاند الذي أثبت أنه يمارس «الاشتراكية الخليجية» على أشدِّها، لأن اختيار الفرنسيين بين هولاند ولوبان سيصب بمصلحة الأول بعكس لو كان الاختيار بين لوبان وشخصيةٍ مغمورةٍ من حزب ساركوزي.
أما الأمر الثاني فهو الإصرار على ربط الملف القطري بالملف الروسي، واستخدام الأمر من قبل الأميركيين كورقة ابتزاز جديدة ضد الروس، الأمر الذي أثار استياء بوتين شخصياً.
بالطريقة ذاتها بدأت الولايات المتحدة تصعِّد من التسريبات التي تتعلق بتورط الاستخبارات التركية بتهريب السلاح للإرهابيين في سورية، كان آخرها ما نشرته صحيفة «الجمهورية» التركية بالفيديو والصور. هذا الأمر يأخذ أحد احتمالين، وكلاهما بانتظار نتائج الانتخابات القادمة، إن سقط أردوغان فإنها ستتابع بث هذه الوثائق لمحاولة التملص من الجنون الأردوغاني تحديداً مع قيام جهاتٍ أميركيةٍ بنشر تقريرٍ يتحدث عن علم الأميركيين المسبق ومنذ العام 2012 أن من قام بالحراك في سورية هم المتطرفون. أما إن فاز فسيتمكنون من ابتزازه للتلاعب بطموحاته بتحويل تركيا لدولة الخلافة الثانية المتصلة مع مناطق تسيطر عليها النصرة في سورية. عليه تصبح معركة حلب بالنسبة له معركة مصيرية حتى قبل الانتخابات، تحديداً مع استمرار الغموض في مصير مملكة «آل سعود» وسط تصاعد العمليات الإرهابية في عمق المملكة وتصاعد الردود اليمنية بالعدة والعتاد.
تحدث لافروف قبل أمس عن نقاطٍ ثلاث لمساعدة الدول التي توجد فيها داعش، كذلك الأمر لم يكن أبداً حديث الدكتور بشار الجعفري عن أن حلب خطٌ أحمرٌ إلا انطلاقاً من قراءةٍ واضحةٍ بأن الأسابيع القادمة ستكون مشتعلةً على عدة جبهات. وحده الأميركي يجلس مرتاحاً كأنّه حكم، مع أنه أساس كل هذه العذابات، يُخرج لمن يشاء بطاقات صفراء، فيُرضي الجميع، لكن تبقى العبرة متى ولمن سيخرج البطاقة الحمراء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن