قضايا وآراء

بين اعترافات «بن جاسم» وحرد «وفد الرياض»

| فرنسا – فراس عزيز ديب 

في السياسة، غالباً ما نَسمع عن مصطلحِ «التحالف مع الشيطان»، وفي الأدب أَلهمَت «أسطورة فاوست» الكُتّاب في شتى المجالات الأدبية لابتكارِ شخصياتٍ يصل بها الطموح غير المنضبط لتعلنَ عن «بيعِ نفسها للشيطان»، مقابل قوى إضافية لتحقيقِ المزيد من المكاسب. في شرقِنا الملتهب لم تعد لديكَ مشكلة أن البعض «تحالفَ مع الشيطان»، ولا أن البعض «باع نفسَهُ للشيطان»، المشكلة أنك لم تعد تعرف… من الشيطان؟!
كان كافياً أن يتلو «الشيطان الأكبر» فعلَ ندامتهِ على سياساتهِ الفاشلة التي أغرقت دولاً بحمَّاماتِ الدم، حتى تبدأ «الشياطين الأصغر» بالسيرِ على النهج ذاته، كيف لا وهم من رسموا مصائرِ الأبرياء بدمائهم، وصنعوا من رفاتهم إطاراتٍ لتلك اللوحات القميئة المذيلة بتوقيع «حُماة الديمقراطية في العالم».
ليسَ أفضل من الكلام الذي قاله «حمد بن جاسم» ليكونَ أداةَ إدانة لكلِّ من قالَ إن «لشعوبِ الشرقِ مطالب محقَّة»، وليس أفضل من الكلام الذي قاله «حمد بن جاسم» ليكون أداةَ إثباتٍ لما قلناه يوماً:
إنهم لا يريدون الشرقَ خالياً من مسيحييهِ، ولا يريدون تقسيمهُ، أنهم يريدونهُ «شرقاً بلا أوطان»، يريدونه شرقاً يتَّسع لـ«دشداشة الحمدَين»، وأفكاره لا تخرج من بيتِ الطاعةِ الوهابي، أطفاله فئرانُ تجارب لكل الوصفاتِ الجاهزة، ونساؤه سبايا عند حاشية الدكتور «خادم الحرمين»، وعليه فإننا نسأل تلك المعارضات من المحيطِ إلى الخليج: هل قرأتم كيف كنتم ألعوبة بيدِ القادمينَ من خارجِ التاريخ، لتدَّعُونَ أنكم تُضَحون لكتابةِ المستقبل؟
ليس غريباً أن ينطقَ «الشيطان الصغير» بكل ما اقترفت أفكاره بحق الأبرياء في سورية وليبيا والعراق واليمن، ربما طموحَ منصبِ «الأمين العام للأمم المتحدة» الذي يسعى إليه يتطلَّب منهُ ذلِك، أو بمعنى أدقٍ فإن «أمماً متحدة» كهذه لا يليق بها أكثر من «أمين عام» كهذا. كما أننا لسنا بالسذاجةِ لنطرحَ التساؤل الممل «لمصلحة من كل ما جرى»؟ لكن الغريب أن هناك من لا يزال يكابر، ويصرّ ألا يعترف أنه ليسَ إلا شيطاناً يشرف على ذاك الجحيم الذي يوقد نيرانه… كبيرهم.
ليست المشكلة بـ«بن جاسم» المشكلة أن الأمة باتت بمعظمها محكومة بـ«أبناءِ الجواسم»، المشكلة أن الأمة بمعظمها باتت تتشيطن على حسابها، بعيداً عن «الشيطان الأكبر»، فإلى أي جحيم سيصلون؟
حضرت «البطة العرجاء» القمة الخليجية، بعيداً عن معلوماتٍ تحدثت عن فتورٍ في الاستقبال وما شابه، لكن ما الجديد الذي سيقدمهُ أوباما، فالملك «خَرْفان» والباقي ليسوا أكثر من «خِرْفان»، أو كما قال «بن جاسم» يوماً «نِعاج». في الشكل تبدو الزيارة هي لطمأنةِ مشيخاتِ النفط بأن الاتفاق مع إيران أو التسوية في سورية لن يكون لها تأثير على عمقِ العلاقات بين الجانبين، لكن في المضمون علينا الاعتراف أن أوباما جاء للقمةِ وهو متحصِّنُ بمشروع قرار يسعى الكونغرس لتمريره يُحمِّل فيه مملكة الجهل مسؤولية أحداث 11 أيلول، بل يتضمن تهديداً بتجميدِ أصولٍ مالية بهدف التعويض لأسر الضحايا.
من السذاجة التسليم بأن أوباما أكد للملك بأنه سيستخدم الفيتو ضد القرار، لكن بالنهاية فإن مشروع القرار قد يتم طرحه بعد انتهاء ولاية أوباما، فهل الهدف هو حقاً «الأصول المالية» التي هي أساساً استثماراتٌ في الاقتصاد الأميركي؛ أم إن الهدف أبعدَ من ذلكَ بكثير، ويستهدف دعوة تلك المشيخات لإغلاق «دكاكين الشيطنة» الخاصة بهم، والعودة لأحجامهم… وإلاّ؟
إنه السلوك الأميركي، الذي لا تعرف على أي خطٍّ يسير، تحديداً من خلال «الحرب على الإرهاب»، فمشروع القرار يستهدف مثلاً حادثة مضى عليها عقدٌ ونصف العقد، ومعظم المتورطين بها يحملون جنسية «آل سعود»، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة خرجت لتحارب الإرهاب في كل بقاع العالم، عدا مملكة «آل سعود»، بل هي تقومُ بالتغطيةِ على كل تنظيمٍ ولو كانَ مسلَّحاً لكنه مدعوم من «آل سعود»، ألا يزالون حتى الآن يكابرون ويجاهدون لمنع تسمية فصيلي «أحرار الشام» و«جيش الإسلام» كتنظيمين إرهابيين؟ لكن هل حقاً أن تلكَ المشيخات وبتحريضٍ تركي، لكونها في التبعيةِ سواء، وصلت لحالةٍ من التمرد وجب على الأميركي تأديبها؟!
لكي نفهم هذه المقاربة علينا فقط النظر لما يجري على الساحة السورية بشقيها السياسي والعسكري.
«حردت» معارضة الرياض وتركت جنيف، كان الرد الأميركي واضحاً بأنهم يتفهمون هذا التصرف، لكن هل هي الحقيقة يا ترى؟ أم إن هذا الكلام الأميركي لا يعدو عن كونه مصطنعاً لإخفاء إخفاق أوباما بالضغطِ على حليفيه الأتراك و«آل سعود»، وبمعنى آخر؛ أن هذا الحرد ناتجٌ عن قبول الولايات المتحدة بما لا يقبله هذان الحليفان. بالتالي طُلب من الوفد الانسحاب، تحديداً إن الطرف الآخر الذي من المفترض أنه شريكٌ للأميركيين بعدة تفاهماتٍ تضمن الهدنة وتدعم التقدم بالمسار السياسي أي الروسي، رحب «ضمنياً» بمغادرة وفد الرياض، وأوباما بالأمس أصرَّ على أن التفاهم مع الروس هو أساس الحل، حتى ولو كان «لا يفضل ذلك»؟
في الإطار العام يبدو لدينا أحد احتمالين: أولاً، أن الولايات المتحدة ستقوم بترحيل الملف السوري للإدارة القادمة، وهي تماطل في الكثيرِ من الأمور من هذا المنطلق، بمعزل عن حردِ هذا أو تمردِ ذاك، لكن هذا الاحتمال يبقى ضعيفاً أو أن هناك معطيات تُضعفه وهو ما يقودنا للاحتمال الثاني.
ثانياً: إن الولايات المتحدة رأت بتمرد الحلفاء وانسحاب وفد «معارضة الرياض» فرصةً لتمرير الحل، فهل ستلجأ للحكمة التي قلناها يوماً بأنك «إذا أردت قتل الكلب عليك اتهامه بالسعار»، أم إن التهديدات الأميركية لـ «آل سعود» الأخيرة هي فرصةٌ لإعطائهم هامشاً للتفكير ستؤدي حكماً لعودة وفدهم إلى المباحثات.
ربما هو الاحتمال الأدق، تحديداً إذا ما أخذنا بالحسبان أن «المنزعجين» من الحل كُثر، وهذا الأمر يتقاطع مع ما جرى في القامشلي في الأيام الماضية، فحماقات أصحاب الطموحات الانفصالية ليست تمادياً على المحظورات فحسب، لكنه قد يكون شكلاً من أشكال اقتناعهم بأن الحل السياسي سيتتابع، وأن حلم «إسرائيل الشمال» بات سراباً مهما ظنّوا أنفسهم ورقة رابحة يستعملها الأميركي ضد القيادة السورية، ويستعملها الروسي في الوقت ذاته ضد الأتراك، لكن الواقع شيء والطموح شيء.
لكن ومن باب الواقعية هل هناك احتمالٌ وسطي بين هذين الاحتمالين؟ بالتأكيد من الذكاء ألا نستثني أي احتمالٍ، بما فيها إمكانية إمعان كل الأطراف بالتمرد، وتحديداً أن الآخرين باتوا مطمئنين لأنهم فيما يبدو أعادوا الاستعداد للمعركة القادمة في حال انهيار كل شيء، بما فيها الهدنة أو التفاهم الروسي الأميركي، بينما لا نزال نحسب الحسابات الكبيرة حتى قبل الهجوم على مناطق تحتلها «النصرة».
ربما ننتظر ما يخشاه الآخرون، فببساطةٍ نحن لن نكون حلفاء للشيطان ولن نبيع أنفسنا له، لكننا في الوقت ذاته علينا أن نتذكر دائماً أننا منذ 5 سنوات لا نزال «نُراقص الشياطين»، فهل ستطول الرقصة كثيراً أم إن لموسيقا الجحيم نهاية؟ ربما هي كذلك…

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن