قضايا وآراء

قصة برميل النفط تختصر مأساة أمة

| القاهرة – فارس الجيرودي 

تحيلنا التقلبات التي شهدها السعر العالمي لبرميل النفط خلال السنوات القليلة الأخيرة، إلى إعادة التأمل في الدور الخطر والحاسم الذي لعبته هذه السلعة منذ اكتشافها في التأثير في الواقع العربي وفي تطور الأحداث في منطقتنا، فبمراجعة سريعة لسجلات بورصات النفط العالمية سنكتشف مفارقات مذهلة لن نبالغ إن قلنا إنها تختصر إلى حد ما مأساة أمتنا، وإنها تساعد على تفسير التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية المريعة التي طرأت على الواقع العربي خلال العقود الماضية، وكان سعر برميل النفط عاملاً حاسماً فيها أكثر مما نتصور.
لقد تغير سعر برميل النفط كثيراً منذ اكتشفت شركة ستاندارد أويل أوف كاليفورنيا أول بئر نفط في إقليم الجزيرة العربية وكان ذلك في البحرين، عندما اشترط الشيخ الحاكم للمشيخة الخليجية من عائلة آل خليفة الحصول على سيارة رولز رويس وتأمين ملء خزانها بالوقود مقابل منح الشركة امتياز استخراج النفط، ليزداد سعر البرميل فيما بعد إلى دولار لكنه لم يتجاوز أبداً حاجز 3 دولارات طوال الخمسينيات والستينيات حتى اندلاع حرب تشرين 1973، حيث أدى الإعلان عن حظر بيع النفط على لسان الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز إلى تضاعف سعر برميل النفط أربع مرات، لتأخذ هذه السلعة قيمتها الحقيقية لأول مرة في السوق العالمية، ورغم أن الوثائق المفرج عن سريتها كشفت فيما بعد أن إعلان الملك حظر بيع النفط للدول الغربية الداعمة لإسرائيل تضامناً مع الجيوش العربية التي تخوض الحرب كان مجرد إعلان صوري، إلا أن مجرد الإعلان الشفوي أدى إلى زيادة المضاربة في بورصات النفط، وإلى ظهور فورة غير مسبوقة في سعر هذه السلعة.
وهكذا شكلت حرب تشرين نقطة التحول التي تدفقت بعدها الثروات على ممالك وإمارات الخليج، وترافق الحدث مع أزمة اقتصادية كانت تتعرض لها الولايات المتحدة بسبب استنزافها في حرب فيتنام واضطرارها لبيع مخزونها من الذهب الذي كان يشكل الرصيد الذي يعطي الدولار سعره في الأسواق العالمية، وتوصل وزير الخارجية الأميركي حينها هنري كسينجر إلى حل للمعضلة عبر صفقة عقدها مع الملك فيصل تنص على أن يحل النفط الخليجي مكان الذهب، وذلك عبر التعهد بعدم بيع النفط بعملة غير الدولار، والتعهد بإيداع الفوائض المالية الهائلة التي تدفقت على دويلات الخليج في المصارف الأميركية، لتبدأ منذ ذلك التاريخ حقبة جديدة في العالم العربي، حيث أمّن مال البترودولار لدويلات الخليج قدرة على لعب أدوار كبرى من واقعها التاريخي والحضاري، لتنتقل مراكز التأثير في الثقافة والحضارة والسياسة في العالم العربي تدريجياً من القاهرة ودمشق وبغداد وبيروت إلى الرياض والكويت والدوحة وأبو ظبي التي أصبحت تمتلك إمبراطوريات إعلامية ضخمة استخدمتها لفرض قيمها الثقافية المتخلفة، ولدعم الأدوار الوظيفية الموكل لأنظمتها السياسية القيام بها في خدمة أجندات السياسة الغربية، وعلى رأسها تطويع أو تدمير الدول العربية المركزية التي اندرجت في حركة التحرر العربي، وأبدت مقاومة للهيمنة الاستعمارية على المنطقة العربية وثرواتها.
وهكذا وقعت الدول التي خاضت جيوشها حرب تشرين الأول 1973 (سورية– مصر– العراق) بين خياري الخضوع المذل لدويلات الخليج أو ملاقاة مصير التدمير الممنهج، من خلال تلقي موجات الانتحاريين والجهاديين، من أنحاء العالمين العربي والإسلامي الذين شكلت وعيهم السياسي قنوات الخليج والمراكز الدينية الممولة بمال البتردولار، والمنتشرة في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه وحتى في أوروبا.
ولعل آخر ذلك ما تعرضت له مصر مما بدا أنه عملية ليّ ذراع استغلالاً لأزمتها الاقتصادية الخانقة، فانتهت القيادة السياسية فيها للتنازل عن السيادة على جزيرتي تيران وصنافير وفقاً لاتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي أعلن عنه في القاهرة أثناء الزيارة الأخيرة للملك السعودي، ما تسبب في رد فعل جماهيري غاضب غير مسبوق وفي انقسام في صفوف الشرائح الاجتماعية التي وقفت مع ثورة 30 حزيران، تلك الثورة التي قامت تحت شعار إسقاط حكم متخلف متستر برداء الدين، وهكذا يمكن لقصة سعر برميل النفط أن تسرد مأساة أمتنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن