ثقافة وفن

تأملات موسيقية

| د. علي القيم 

الموسيقا في نظر العملاق «بيتهوفن» هي أعلى من كل حكمة وفلسفة.. هي مرتبطة بالعلائق الجوهرية للكائنات.. لذلك يجب معرفتها لتسيير أمور الحكم..
حول هذا الموضوع يقول المفكر والفيلسوف والروائي الألماني «هيرمان هيسه» في روايته الشهيرة «لعبة الكريات الزجاجية»: «إن الموسيقا تنبع من التوازن الناجم عن العدل، الذي ينشأ عن روح الدنيا.. ذلك السر وحده القادر على سبر أغوار الجمال.. إن للموسيقا قوة تتسلط على الأرواح والأقوام وتسيرهم كأنها وزير آمر أو قانون ينضوي له الناس ودولهم».
الموسيقا تقوم بترجمة الأفراح والآلام، بواسطة بعض العلائق بين الأنغام، فهي تجرّد الزفرة الطبيعية من وحشيتها وفجاجتها، وتخفف من حدتها، وتلطف من لهجتها، وتطهرها من كل ما هو مبالغ فيه، فترتفع بفضل هذا فوق القوة البدائية الكامنة في الانفعال، الذي تروضه، وتحرر القلب من ضغط الأحزان والمسرات.. الموسيقا هي لغة العاطفة والهوى.. إنها المادة القادرة على الإفصاح عن كل انفعالات القلب البشري وتقص علينا بلهجتها الخاصة حكاية إرادتنا الخفية وما يعترضها من ميول واضطرابات.. إنها تسمعنا هدير كل التموجات الداخلية بنكهات لا حصر لها، لكن دائماً بصورة تجريدية لا تمييز فيها.. إنه الشكل ذاته من دون المحتوى، كعالم من الأرواح الصافية من دون مادة.
النغم يعبّر عن مختلف أطوار الحزن والفرح، والإيقاع يحدد نوعية العاطفة التي تقيس الدينامية كميتها، وهو ديمومة خصبة وهادئة وشفافة وخفيفة على الروح.. إنه يخلو من ذلك القلق، ويعلمنا فضائل الانتظار.. والموسيقا في كل هذا وذاك هي تنظيم الزمان.. لحن يبدأ، وآخر ينتهي.. إيقاع يتمدد، يتحوّل، يشتد، يستقبل روافد جديدة من كل الجهات.. يتضخم بحماس، ويفيض في انتصار ساحق.. هو البطولة في ذاتها، والأمل الأمثل الذي لا يمكن ولا يجوز أن يوجد ما هو أفضل منه..
اللحن الجميل هو ذاك الذي يملك مفتاح الوقت.. إننا نعشقه كما يعبد الغريق منقذه، ونصدقه كما يثق الحبيب بحبيبه.. إننا نرحب بظهوره، كما نهلل لفتاة تيمنا هواها، تطل علينا فجأة، ونؤمن بقدرته السحرية، فمنذ أن امتلك أعجوبة شفائنا من الحزن.. أي معجزة عساها تستعصي عليه؟ كما كان إعجابنا به في محله.. إنه حقاً أخاذ.. إنه ملكنا لأننا اصطفيناه.. إننا نترقبه أكثر مما يتلهف العطشان في الصحراء إلى الواحة، ونفرح بتلك العلامة الفارقة التي يرسمها بروزه على درب الزمان.
لقد أجمع فلاسفة العالم على أن الموسيقا، هي اللغة العالمية الصحيحة للتأثرات، وفن الانطباعات، وأنها التي تسمح لنا أن نرفع حجر القبر عن حياتنا العاطفية، يقول الموسيقار ديبوسي: (إن الألحان ليست التعبير عن الإحساس، إنها الإحساس ذاته) ولذلك كانت صيحة سترافنسكي الشهيرة: «علينا واجب تجاه الموسيقا، هو أن نخترعها»، حتى نستطيع من خلالها تخفيف الهمجية، وتهذيب الأخلاق.. لذلك قال نيتشه مقولته الشهيرة: «إن الحياة من دون موسيقا هي بكل بساطة، غلطة، تعب.. منفى..».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن