ثقافة وفن

وداعاً أيها الفارس.. فارس العطار .. صفاء ورزانة.. وذوق أدبي رفيع..وإرادة لا تلين

| الدكتور محمود السيد

لقد فقدت سورية فارساً من فرسانها المرموقين، فارساً بكل ما تحمله كلمة فارس من بطولة ورجولة وإباء وعزة وكبرياء، إنه الفارس النبيل فارس العطار الذي له من اسمه كل النصيب فروسية عالية وسمعة عطرة.
عرفته يوم أن كنت وزيراً للثقافة عام 2005 عندما شرفت باستقباله في مكتبي، وأطلعتُ على جهوده الوطنية والأخلاقية والمناقبية في إعادة لوحات فسيفسائية كانت قد هرّبت من قبلُ من سورية إلى خارجها، وجرى اكتشافها في كندا عام 1995 بعد أن حلَّ بها ترحال السرقة في كندا، وما كان من الفارس وهو الوطني بامتياز والمقيم حينئذ في كندا إلا أن بذل كل مساعيه مع الحكومة الكندية لإعادتها إلى بلاده، ونجح في مسعاه بعد جهود مضنية وشاقة، وأعاد ما سرق إلى الوطن.

أكبرتُ عالياً هذا الموقف الوطني الرائع، واقترحتُ يومها أن يمنح وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة تقديراً لوطنيته وانتمائه، وإكباراً لمسعاه النبيل في الحفاظ على تراث وطنه، وهو الفارس الذي أحبّ بلاده أيما حبّ، وترجم هذا الحب فكراً ونزوعاً وسلوكاً وأداء، فكان مثالاً في الوطنية والانتماء والأصالة والوفاء.
ذلك هو جانب من سجايا فارسنا النبيل الذي وقف عمره لخدمة وطنه وأمته بدافع من تربيته الوطنية المثالية التي ربّاه أهله الكرام عليها، وبدافع من مناقبه الرفيعة وأخلاقه الفاضلة وانتمائه الأصيل.
وكانت لنا لقاءات بعد ذلك، ولا أنسى تلك السهرة العائلية التي جمعتنا في بيته الكريم مع السفير الدكتور عماد مصطفى وأسرته عام 2009، وكانت من سهرات العمر حيث نثر فيها فارسنا بعضاً من درر ذكرياته، وأطلعنا على جانب من خبراته المتميزة، وعرفنا ثقافته الواسعة وجمعه بين الأصالة والمعاصرة، وذوقه الأدبي الرفيع، وتنوع موهبته، وقوة إرادته وعزيمته إلى جانب صفائه وطيبته ورزانته ونبل كفاحه في الوطن وفي خارجه، فكان يتحدث في السهرة بكل شفافية وعفوية، وكانت آراؤه في معالجة القضايا تتسم بالحكمة والرصانة، يزين ذلك كله ابتسامة عذبة حانية لم تكن تفارق محيّاه.
وماذا عساي أن أعدد من نضالات فقيدنا، وهي متنوعة متعددة، ولا يمكنني أن أنسى الإشارة إلى محبته للغته الأم (العربية الفصيحة)، وحرصه على سيرورتها وانتشارها في بلاد الاغتراب، حيث أسهمت المجلة التي أسسها في كندا «مجلة كندا والعالم العربي» باللغات الثلاث العربية والإنكليزية والفرنسية في نشر العربية بين أبناء الجالية العربية في كندا من جانب، وتعريف الآخرين من غير أبناء العربية بعراقة الحضارة السورية والعربية ومدى إسهامها في مسيرة الحضارة الإنسانية من جانب آخر.
ولما كانت جبلته العطاء الذي يرتاح إليه، ويشعر بالسعادة عندما يؤديه لا جزاء ولا شكوراً، فقد عمل على توزيع مجلته مجاناً، ومدّ يده إلى تقديم المساعدة لأبناء وطنه المغتربين في كندا عاملاً على حلّ مشكلاتهم بكلّ أريحية وشهامة.
رحم الله فارسنا الكبير ذا السيرة العطرة بامتياز، والذي يعد مثالاً وقدوة في المواطنة الحقيقية، وشتان بينك أيها الفارس النبيل يا ذا القامة الشامخة شرفاً وعزة وهياماً بالوطن ويا من تمثل منظومة القيم الوطنية والأخلاقية والإنسانية، وتجسد العطاء بأسمى معانيه ممارسة وسلوكاً، العطاء الذي لا تروم من ورائه إلا النبل والشهامة والأريحية، وبين آخرين، فكنت باراً بوطنك ووفياً له في حلّك وترحالك، في الوقت الذي رأينا فيه نفراً احتضنهم الوطن ورعاهم، وغمرهم بعطاياه وفضله ونعمه، وعندما تعرض وطنهم إلى أبشع جريمة نكراء عرفها التاريخ البشري فإذا هم يتخلون عنه في ضرّائه، لا بل وقفوا في صفّ أعدائه، وأسهموا في أعمال التخريب والتدمير غير مبالين بالمآسي التي انتابت أبناءه بعد أن ماتت ضمائرهم، وفقدوا إحساسهم، واقتلعوا جذورهم من أرضهم بكل وقاحة وصفاقة وانحلال فكري وخلقي، لا بل نسَّقوا مع أعداء الوطن في الكيدية والتآمر، على الرغم من أن بعضاً منهم كانوا قد تقلدوا في الوطن أعلى المناصب، وأحاطهم وطنهم بكل رعاية وتقدير ومحبة، ووهبهم الكثير من نعمه وآلائه، وإذا هم يتنكرون لماضيهم ولا يخجلون، وينسقون مع أعداء الوطن ولا يرعوون.
لمثلك أيها الفقيد الغالي ترفع أسمى آيات التقدير والإكبار والعزة والفخار لأنك كنت تبني وتحرص على الفضيلة والقيم وصون الوطن والوقوف إلى جانبه في المحن!
وبمثلك تقتدي الأجيال وتعمر الأوطان وتصان الشيم والأخلاق!
وهنيئاً لك سيرتك العطرة، ورحم الله أهلك الذين أحسنوا البناء فشيدوا العمارات البشرية التي يعتز بها الوطن، ونعتز بمتانة بنيانها، وأطال الله عمر أخيك الشهم الدكتور عبد الرحمن الذي يقف جهوده لخدمة وطنه وأمته والإنسانية بكل صوفية وأخلاق وتفان، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على المحتد الأصيل لهذه العائلة الشريفة.
سلام على روحك الطاهرة أيها الفقيد الغالي وتعازينا القلبية الحارة لأولادك الأعزاء سامي ومصطفى ولينة وسمر ولأهلك الكرام ولذويك ومحبيك، وندعو الله أن يسكنك فسيح جناته، وأن يعيد الأمن والاستقرار لوطنك الذي أحببت، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المدير العام لهيئة الموسوعة العربية

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن