من دفتر الوطن

من قاسيون

| عصام داري 

شلال البيوت الهابط من أعلى جبل قاسيون، إلى السفح في أقدم عاصمة مأهولة في العالم، يوحي بأفكار خيالية تشبه أحلام اليقظة، تدعو إلى التأمل في هذه اللوحة التي رسمتها البيوت بألوان متفاوتة بين الترابي المعتق، والرمادي والفضي والأبيض والأزرق بتدرجاته.
لكن هذه اللوحة البديعة والعشوائية وغير المتناظرة التي رسمتها حاجة الإنسان إلى مكان يؤويه ويخفي عيوبه ومشاكله وهمومه، ويحميه من الطبيعة وغضبها، من حر الصيف وزمهرير الشتاء وغدر الزمان، هذه اللوحة على جماليتها تخفي أحلاماً وأوجاعاً وآلاماً وعذابات، وحكايات لا تنتهي قد تلخص سيرة البشر في هذه المدينة التي نحب، والتي نتمنى أن تعطينا العبر والدروس الحافلة بكل التناقضات التي تروي قصصاً تصلح لصنع آلاف الأفلام والمسلسلات والقصص والروايات، وتحرض الشاعر على نظم القصائد.
من قاسيون أتمنى أن أمتلك «طاقية الإخفاء» لأدخل إلى كل بيت من بيوت مدينتي الجميلة، وأسرق بعض الحكايات، وأخطف بعض الأسرار، وأتلصص على الناس وأكتب نتفاً من أحوال الناس وأحلامهم وآمالهم الضائعة على قارعة المدينة الرابضة على هذا الجبل الرزين.
في هذا البيت قصة حب تاهت في الزحمة، تكسرت على صخرة العادات والتقاليد التي أكل عليها الزمن وشرب، لكنها ما زالت تحطم قلوب العشاق، وتخطف فرحتهم وهم في بداية المشوار.
لا أعرف الشاب حق المعرفة، لكنني أعرف والده الذي أعتبره من المقربين مني، لكنني أسأل بحزن حقيقي: هل تستحق صبية، مهما امتلكت من سحر وجمال، أن يفتديها الشاب بروحه، ويختار الانتحار مع سبق الإصرار والترصد؟.
وفي ذلك البيت المنزوي في الحي البعيد الذي يتظلل بشجرة كينا عملاقة، ثمة دموع ومرارة وحزن على ابن ابتلعه البحر في طريق هروبه من الوحوش، فكان خلاصه من الموت بالموت وعزاء الأم بأن النحر كان أرحم على وليدها المسافر عبر زمن ليس زمنه.
في الجوار تعزف الموسيقا ألحان الفرح «دقوا المزاهر يلا ويا أهل البيت تعالوا، جمع ووفق والله وصدقوا اللي قالوا»، هكذا، وتحت سماء واحدة تختلط دموع الفرح بزفة العروس، و«عظم اللـه أجركم».. و«مباركة أفراحكم، وبالرفاء والبنين»!.
دولاب الحياة سيستمر في الدوران لن يوقفه شيء في الدنيا، وفي الوقت الذي يباهي شاب بقوته وصحته، تسكن آهات المرضى وتوجعات العليل في بيت آخر ليس بعيداً في مدينتنا.
لكن المفارقة القاتلة أن هناك أشخاصاً يرمون الطعام في القمامة على حين يموت الناس جوعاً، وقد قرأت دراسة حديثة تقول إن الطعام المهدر على مستوى العالم يكفي لحل أزمة الغذاء في اثنتين وثلاثين دولة تعاني مشاكل غذائية ونقصاً حاداً في الغذاء.
والمفارقة أيضاً في مدينتي التي أحب، وفي بلدي الذي أعشق، أن الفساد صار سيفاً مسلطاً على رقاب العباد، وأن الفاسد يكافأ على فساده وتتم ترقيته، وأن المحتكرين ولصوص النهار صاروا جيشاً موازياً لداعش وأخواته والله أعلم!.
من قاسيون أطل على أوجاع بلدي أبحث عن الحلول وعن الطبيب، لكنني أجد أن الجراح تزداد نزفاً، وعجلة الحياة تدور بقوة وتطحن أحلام الفقراء.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن