قضايا وآراء

قُدُماً نحو خواتيم مبّشرة

| عبد المنعم علي عيسى

لم تستطع التحصينات الأسطورية التي تمّ العمل على تعزيزها لأربعة أعوام متواصلة من دون انقطاع، ولا استطاعت الأسلحة المتطورة التي أمكن لحظها في معارك حلب الأخيرة أن توقف تقدم الجيش السوري الذي استطاع خلال /49/ يوماً على بدء المعارك في حلب تحقيق إنجازين عسكريين على درجة عالية من الأهمية، الأول كان في ليل 25-26 تموز الماضي وفيه تمت السيطرة تماماً على طريق الكاستيلو بعد 46 يوماً على بدء المعركة، والثاني كان في 28 تموز عندما أصدر الجيش بياناً يعلن فيه عن سيطرته على حيّ بني زيد الشديد التأثير بمخيم حندرات ومزارع الملاح.
من الناحية العسكرية فإن الإنجاز الأول يعني وقوع عشرة آلاف مقاتل من المدعومين تركياً في حصار داخل أحياء حلب الشرقية، وقد بات هؤلاء منذ اللحظة الأولى لتمام السيطرة على الكاستيلو عرضة للاستهداف الجوي الذي سيشكل عامل استنزاف من الصعب احتماله على المدى الطويل، الأمر الذي سيدفع بتلك الفصائل نحو البحث عن مخارج ليس من بينها هذه المرة الاتكاء على وعود تركية أو قطرية أو سعودية، بينما الثاني (الإنجاز الثاني) يعني تمام السيطرة على مرابض الصواريخ ومدافع جهنم التي كانت تمطر المدنيين بمئات القذائف يومياً والتي استطاعت أن تحصد- بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان- ثمانية آلاف شهيد خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة.
أما من الناحية السياسية فإن ما جرى يعني سقوطاً لجميع الخطوط الحمر الأميركية والتركية التي كثر الحديث عنها على امتداد السنوات الخمس الماضية وفيها كان يقال- من ضمن ما يقال إن لتجاوز تلك الخطوط عواقب وخيمة ليس على الدولة السورية فحسب بل على حلفائها أيضاً.
لم يكن الإنجازان السابقان في نطاق التفاهم الروسي- الأميركي الذي كثر الحديث عنه مؤخراً ولا كان من نتائجهما تهديد ذلك التفاهم، ففي أعقاب سيطرة الجيش على الكاستيلو واقترابه من أن يفعل ذلك على حي بني زيد كان جون كيري يعلن من «فينيتيان» عاصمة لاوس أن بلاده سوف تعلن عن خطتها بشأن سورية مطلع آب المقبل 27/7/2016، أما فيما يخص الفكرة الأولى (علاقة الإنجازين بالتفاهم الأميركي الروسي) فإن من الثابت أن واشنطن لم تتراجع في دعمها للفصائل الحليفة لها، تقول صحيفة لبنانية/ السفير 28/7/2016 إن سفينة شحن أميركية كانت قد أقلعت في 21 حزيران الماضي من ميناء بلغاري وهي تحمل 1700 طن من الأسلحة والذخائر وقد شوهدت في 27 حزيران في ميناء العقبة الأردني لترجح مصادر الصحيفة أن حمولة تلك السفينة أضحت في متناول الفصائل المسلحة خلال الأسبوعين الأولين من تموز.
أيضاً لم يحدث الإنجازان السابقان نتيجة لحالة انكفاء تركيا (وإن كانت مفاعيل سقوط الكاستيلو والانقلاب التركي الفاشل سوف تدفع نحو قيام تلك الحالة حتماً) فقد كان لافتاً ظهور صواريخ (هار 66) التركية المعدلة عن صواريخ «لاو» الأميركية في معارك حلب الأخيرة، السفير اللبنانية قالت نقلاً عن مصادر تركية وصفتها بالمطلعة إن شركة نقل جوخدار التركية كانت قد قامت في الثاني من تموز الماضي بنقل كتيبة مدرعات تركية من عينتاب إلى مواقع فرقة «الحمزة» في الشمال السوري لتعزيز دفاعاتها، وفي تداعيات الحدث الحلبي كان لافتاً ما ذهب إليه ستيفان دي ميستورا في أعقاب لقائه مسؤولين روساً وأميركان في جنيف 27/7/2016، فقد أعرب في ختام لقاءاته عن أمله بانعقاد جولة ثالثة للمفاوضات السورية- السورية في جنيف قبيل نهاية شهر آب المقبل. جدير بالذكر أن المبعوث الأممي كان قد تعرض على امتداد الأشهر الستة الأخيرة لانتقادات عديدة روسية وبدرجة أقل أوروبية كانت تتهمه بالتقصير في عدم الإعلان عن الموعد الجديد لانعقاد مفاوضات جنيف، كان دي ميستورا يجيب في حالات عدة بالصمت قبل أن يلمح في أحد لقاءاته في موسكو مؤخراً إلى أن انعقاد جولة مفاوضات جديدة في ظل وجود ظروف دولية غير مساعدة يمكن أن يأتي بنتائج عكسية لتلك المرجوة منها والسؤال المهم هنا هو: هل يعني ذهاب دي ميستورا إلى تحديد موعد لانطلاق الجولة الثالثة من جنيف أن تغيّراً كبيراً في تلك الظروف قد حدث؟ وأنها باتت الآن مساعدة للدفع قدماً بأي مفاوضات مفترضة يمكن أن تجري في جنيف؟
وإذا كان لنا أن نستقرئ دوافع دي ميستورا التي تفترض حدوث متغيرات دولية مهمة تجعل من الحوار السوري- السوري مفيداً في هذه الآونة، يمكن لنا أن نقول إن هناك العديد من المؤشرات التي توحي بذلك منها ما جاء على لسان أليكسي يورودا فكين المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة 27/7/2016 عندما قال: «إن موسكو تعتقد أن واشنطن لم تعد تطالب باستقالة «الرئيس الأسد فوراً» وهو تصريح بالغ الأهمية، صحيح أنه جاء بصيغة تخمين سياسي إلا أن العارفين بآلية إطلاق التصريحات الروسية يقولون إن لا شيء يمكن أن يحدث اعتباطياً وإن الإشارة تصدر عن رأس الهرم ثم يتقرر عند أي محطة ستقف وتخرج إلى العلن عبرها.
وفي التداعيات أيضاً يمكن القول إن إلحاق الهزيمة بجبهة النصرة قد دفع بقيادات هذه الأخيرة نحو المناورة للخروج من المأزق في توقيت من شأنه وحده أن يجعل من تلك التكتيكات غير مجدية، صحيح أن هناك العديد من العوامل التي تجعل من إعلان أبي محمد الجولاني 28/7/2016 عن انفكاك تنظيمه عن القاعدة وتغيير اسمه ليصبح جبهة فتح الشام غير ذي جدوى من الناحية السياسية لاعتبارات عديدة إلا أن الصحيح أيضاً أن إلحاق الهزيمة الكبرى بالتنظيم في حلب والوقوف على أعتاب إدلب وكذلك محاولات الهرب من الاستهداف الروسي يشكل البعد الأعمق فيما ذهب إليه تنظيم جبهة النصرة، فمن الناحية السياسية تبدو المناورة أكثر من مكشوفة وهي جاءت بتوافق تام مع قادة القاعدة الذين لم ينسَ الجولاني شكرهم في بيانه السابق الذكر، ناهيك عن أن الأهداف التي حددها هذا الأخير لتنظيمه الجديد هي نفسها ولم يتغير منها شيء عن تلك التي أطلقها البيان التأسيسي الأول لجبهة النصرة 24 كانون الثاني 2012.
من الإنصاف الآن أن نقول إن ما جرى هو إنجاز إستراتيجي كبير وهو يضعنا على أعتاب مرحلة سياسية وعسكرية مغايرة لتلك التي كانت سائدة على امتداد أربع سنوات ماضية وهذا أمر من الممكن قراءته في إدارة الخصوم لأوراقهم، فعندما يذهب البريطانيون والفرنسيون في بيان صادر عن خارجيتيهما 28/7/2016 إلى التحذير من «كارثة إنسانية بسبب حصار الجيش السوري لحلب»، فهذا يعني نفاداً كاملاً للأوراق الرابحة التي لم يتبق منها سوى الورقة «الإنسانية»، والتي من المتوقع لها أن تثار خلال الأيام المقبلة بشكل كبير على الرغم من أن إعلان الجيش عن فتح ثلاثة ممرات آمنة لخروج المدنيين ورابع للمسلحين الراغبين في إلقاء السلاح منذ اللحظات الأولى لإعلان السيطرة على الكاستيلو ثم أتبعها بفتح ثلاثة أخرى 30/7/2016، هو أمر يعني أن الكرة «الإنسانية» قد باتت في ملعب الفصائل المسلحة وليس في ملعب الجيش والتقارير الغربية نفسها تقول إن تلك الفصائل تمنع المدنيين من الخروج لاستخدامهم دروعاً بشرية (رويترز 29/7/2016).
وسط هذه المتغيرات يبقى الموقف السعودي متمترساً في مكانه لا يتزحزح، ولربما يبدو أن وزير الخارجية السعودية طامح لدخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية بعديد المرات التي أطلقها مطالباً برحيل الرئيس بشار الأسد عن السلطة، والتي كان آخرها من نواكشوط 25/7/2016 على هامش انعقاد القمة العربية الأخيرة فيها على الرغم من أن المؤشرات التي جاءت بها تلك القمة تستدعي التوقف عندها، ومنها على سبيل المثال نتائج التصويت على منح المعارضة السورية حق تمثيل الدولة السورية في القمة، فقد كان عدد المعترضين ثماني دول منها دول محسوبة حليفة كمصر وعمان، أما الممتنعة عن التصويت فكانت سبع دول منها حلفاء أيضاً كالأردن والإمارات وتبقى الدول الموافقة ستاً، أربع منها دول الخليج المتبقية إضافة إلى اليمن والسودان.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن