قضايا وآراء

… إذ تتخذ وضعية «الكاميكاز» في حلب

| عبد المنعم علي عيسى

أعلن الجيش السوري عن سيطرته على الكاستيلو 25-26/7/2016 ثم على حي بني زيد 28/7/2016 ثم قام بالإعلان عن فتح ثلاثة معابر آمنة لخروج المدنيين ورابع للمسلحين، وقد جرى ذلك بالتزامن مع إبلاغ وزير الخارجية وليد المعلم لرمزي عز الدين ممثل المبعوث الأممي لحل الأزمة السورية الذي التقاه في دمشق 30/7/2016 بأن دمشق جاهزة للمشاركة في الجولة المقبلة من مفاوضات جنيف أواخر شهر آب أو أوائل شهر أيلول كما أعلن عن ذلك مؤخراً.
شكلت الإعلانات الأربعة، السابقة مجتمعة إعلان انتصار متكامل وغير منقوص للدولة السورية الأمر الذي قوبل بردة فعل عسكرية عنيفة من الفصائل المسلحة المدعومة إقليمياً، فقد أعلن في 31/7/2016 عن بدء هجوم أطلق عليه اسم «الغضب لحلب» انطلاقاً من عمق الجبهة الجنوبية والجنوبية الغربية لمدينة حلب الأمر الذي قرأه العديدون على أنه رسالة إقليمية (والبعض قال إنها دولية أيضاً) يراد إيصالها إلى دمشق وحلفائها ومفادها بأن سيطرة الجيش السوري على حلب هو أمر غير مسموح!! والسؤال المهم هنا هو: إذا ما كانت تلك العملية رسالة إقليمية لدمشق (وهي فعلاً كذلك) فهل هي أيضاً رسالة دولية (تحديداً أمريكية) إليها؟ ومن شأن الإجابة عن هذا السؤال الأخير أن تضيء- أو تتنبأ- بالمآلات التي يمكن أن يصل إليها الصراع الدائر في حلب والذي تجمع كثير من التحليلات على أنه سيكون مفصلياً في مسار الحرب السورية.
انضوت تحت راية «الغضب لحلب» عشرات الفصائل المسلحة على رأسها جيش الفتح وفتح الشام (النصرة سابقاً) ونور الدين الزنكي والحزب التركستاني (الايغور الصينيون) وعلى عاتق هذا الفصيل الأخير كان يقع مدّ الجبهات بموجات الانتحاريين المتلاحقة انطلاقاً من أن أغلبية مقاتليه هم من الانغماسيين، فقد كانت الخطط تقوم- كما لم تكن في يوم من الأيام- على دور كبير يؤديه هؤلاء تمهيداً لفتح ثغرات في دفاعات الجيش السوري.
شهدت الأيام الأربعة الأولى من المعركة موجات متتالية من الهجمات التي كانت جميعها تبدأ بمجموعات الانتحاريين وعلى الرغم من ذلك فقد استطاعت وحدات الجيش رد المهاجمين على أعقابهم وفي فجر يوم 5/8/2016 انطلق الهجوم الأشرس الذي سبقه عشرات الشاحنات المفخخة بمئات الأطنان من المتفجرات التي كانت تنطلق من مدرسة الحكمة التي اعتمدها جيش الفتح نقطة تحضير وانطلاق لتلك العمليات الأمر نفسه تكرر يوم 6/8/2016 ومن الجائز تسمية هذا اليوم الأخير بيوم المفخخات لكثرة السيارات الانتحارية التي استخدمت فيه، وفي ظهيرة هذا اليوم الأخير أعلن المرصد السوري أن جيش الفتح قد استطاع السيطرة على كلية التسليح وجزء كبير من مدرسة المدفعية» في حين قالت جبهة النصرة في بيان أصدرته بالتزامن مع المرصد أن وحداتها قد استطاعت «السيطرة على كلية التسليح والمدفعية وكلية التعيينات» ثم أعلنت في بيان لاحق أن مجموعاتها قد استطاعت السيطرة على الكلية الجوية الفنية.
أما بيان وكالة «سانا» فقد اكتفى بالقول إن المعارك لا تزال مستمرة وإن الجيش يعمل على استقدام تعزيزات لمؤازرة المدافعين في محيط الكليات التي تتعرض لهجوم شرس، شهدت المرحلة السابقة بيانات جد متضاربة كما شهدت حرباً للشائعات من العيار الثقيل إلا أن المؤكد عبر تقارير ميدانية أن السمة الغالبة للمعارك التي شهدتها تلك المرحلة هي تواصل عمليات الكر والفر كما تؤكد تلك التقارير أن عمليات اقتحام الفصائل المسلحة للكليات قد حدثت لـ4 أو 5 مرات وفي كل مرة كان الجيش يعمد إلى استرجاعها مكبداً تلك الفصائل خسائر كبيرة، ولذا فإن الصورة المتولدة حتى الآن هي أن المجموعات المسلحة المهاجمة لم تستطع التمكين لهجومها بمعنى لم تستطع تأمين دوام واستمرار السيطرة على المناطق التي عملت على اقتحامها وتلك مسألة لا تعني من الناحية العسكرية أنها تمثل نجاحاً في تغيير المعادلات العسكرية القائمة أو نجاحاً في قلب ميزان القوى الذي كان سائداً قبيل بدء تلك المعارك.
كان لافتاً – وثابتاً- أن حجم الخسائر التي منيت بها الفصائل المهاجمة كان هائلاً وقد وصل في مرات عدة إلى أرقام كبيرة جداً (رويترز قالت في 5/8/2016 أن خسائر المعارضة على امتداد الأيام الستة الماضية من بدء المعركة قد تجاوز الـ1800 قتيل) ثم عادت وذكرت في اليوم التالي 6/8/2016 أن خسائرها في هذا اليوم فقط تجاوز ألف قتيل، وهو أمر إذ يشير إلى شراسة المعارك إلا أنه يؤكد حجم الدعم اللوجستي المطلق الذي تتلقاه تلك الفصائل والأهم من ذلك أنه حاضر في الميدان بالسرعة القصوى، الأمر الذي ساعد حتى الآن في منع حدوث انكسارات كبرى، فالخسائر البشرية لا تكون وحدها على أهميتها بل تترافق بخسائر مثيلة في تعدادها في العتاد والأسلحة ما يعني خروج قسم كبير من العتاد المهاجم عن أداء دوره وفي ظل بروز هذه الظاهرة بقوة على النحو الذي برزت عليه كما تقول التقارير فإن الأمر المتوقع هو حدوث ثغرات كبيرة في أوساط المهاجمين ناجمة عن خروج كبير ومفاجئ لقسم كبير من العتاد قد تؤدي إلى اهتزازات خطرة ما لم يتم ترميمها بالسرعة القصوى وهو الأمر الذي أوكل إلى غرفة عمليات موك التي كانت حاضرة لتعويض الفاقدين البشري والعتادي بالسرعة المطلوبة إلا أن مهمة كهذه يصبح النجاح فيها مستحيلاً إذا طال أمد المعارك لاعتبارات عديدة منها أن الخزان البشري هو خزان محدود ومعرض لأن ينضب إضافة إلى أن أمداً طويلاً يعني المزيد من استهداف قوافل الإمداد عبر سلاح الجو على نحو ما فعلته القاذفات السورية يوم 4/8/2016 في خان طومان عندما استهدفت مجموعات لفيلق الشام كانت تتحضر لمؤازرة الفصائل المهاجمة عندما تلقت تلك الضربة النوعية.
الثابت اليوم أن معارك حلب سوف تطول وأن أشرس المعارك هي تلك التي لم تُخضْ بعد والميدان حافل بالمفاجآت بينما جميع المؤشرات تقول بأرجحية انتصار الجيش السوري انطلاقاً من عوامل عدة أبرزها أن المناخ الدولي القائم حالياً هو في مصلحته إضافة إلى أن عقد التحالف القائم منذ بدء المعارك بين الفصائل لن يستمر طويلاً أو لربما بدأت بوادره بالظهور (قال المحيسني في 4/8/2016: إن المرحلة الثانية من معركة فك الطوق عن حلب قد بدأت على حين أن جبهة النصرة قد قالت في بيانها الذي أصدرته في اليوم نفسه إن المرحلة الثالثة قد بدأت وسمتها غزوة (إبراهيم اليوسف) وهو اسم الضابط الذي ارتكب مجزرة المدفعية بحلب 16 حزيران 1979 فإن يصبح هناك خلاف على ترتيب الحملات ومسمياتها فتلك بوادر انشقاق بالتأكيد فكيف إذا ما أضيف إلى ذلك سلسلة الخسائر الفادحة؟
بالعودة إلى السؤال الذي طرحناه في بداية المقال هل كانت معركة حلب رسالة دولية (أميركية) لدمشق أم لا؟ وللإجابة عنه نقول: إن التدخل الروسي في سورية كان بضوء أخضر أميركي أيضاً المشاركة الروسية في معارك حلب تحظى برضا أميركي أما التصريحات التي تعمد إلى إطلاق تهمة هنا أو تحذير هناك فتلك لذر الرماد في العيون فقط وللمراهنين عليها أو على إمكان حدوث صدام فيما بين الروس والأميركان في سورية نقول: إن «حكيم الأمة» ومنظرها الأكبر هنري كيسنجر قد قال في مقال منشور 16/7/2016: «إن تدخل الروس في سورية يمثل تحدياً جيوسياسياً وليس استراتيجياً وعلى هذا الأساس يجب التعامل مع تلك المسألة» هذا التصريح البالغ الأهمية يعني أن واشنطن ترى أن التدخل الروسي يمثل تحدياً جيوسياسياً أي يمثل حالة وصول روسية إلى جغرافية مكنت موسكو من أن تصبح عاملاً مؤثراً في الأحداث الجارية فيها، ولا يمثل تحدياً استراتيجياً بمعنى أنه غير مؤثر على المخططات أو الترتيبات التي تحضرها واشنطن للمنطقة وبمعنى آخر أنه لا يمثل تهديداً للمصالح الأميركية على المدى القصير أو المتوسط أو حتى البعيد.
وعليه فإن معركة حلب ليست رسالة أميركية لدمشق بل إن الاحتمال الراجح هو أن واشنطن وفي بنود تفاهماتها مع موسكو موافقة على تجميع الفصائل المتشددة في كل من حلب وإدلب تمهيداً لإنزال ضربة ساحقة بها وفي ظل هذه المعايير فإن طريقة إدارة الفصائل المسلحة لمعركة حلب هي أشبه ما تكون باتخاذ وضعية «الكاميكاز» التي تعني تسديد الضربة اليائسة الأخيرة قبيل رفع الرايات البيض ولاستسلام والكاميكاز كلمة يابانية تعني (الريح الإلهية) وهي يقصد بها أولئك الطيارون اليابانيون الذين قاموا بعمليات انتحارية ضد الأسطول الأميركي الذي كان يرابط في خليج بيرل هاربور في 25 تشرين الأول 1944 والتي كانت مقدمة لهزيمة ساحقة نزلت باليابانيين على يد الأميركان في آب 1945.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن