قضايا وآراء

ما بعد حلب.. حروب المدن

| اللاذقية – عبد المنعم علي عيسى

ما سجّلته الأحداث في الأسبوع الفائت يشير إلى حالة ترد قصوى وغير مسبوقة في العلاقة بين واشنطن وموسكو على الأراضي السورية فقد أعلنت الإدارة الأميركية 3/10/2016 عن وقف جميع قنوات الاتصال القائمة مع العاصمة الروسية فيما يخص الأزمة السورية ومن ثم أعلنت على لسان مارك تورنر المتحدث باسم خارجيتها 5/10/2016 أنها تتدارس «كل الاحتمالات السياسية والعسكرية والاستخباراتية والاقتصادية للتعامل مع الأزمة السورية». أرادت الولايات المتحدة العودة بالأزمة السورية من بوابة حلب إلى نقطة الصفر أو بمعنى أدق إلى مناخات الأيام العشرة التي أعقبت اتهام واشنطن لدمشق باستخدام السلاح الكيميائي في الغوطة الشرقية 21/8/2013 التي أفضت إلى الاتفاق الكيميائي السوري برعاية روسية 14/9/2013، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما الذي تريده الولايات المتحدة للخروج من هذه المناخات؟
يشير وقف واشنطن لقنواتها مع موسكو إلى رجحان كفة «الصقور» في البنتاغون على كفة «البواشق» في الخارجية إلا أنه يحمل في طياته بعداً آخر فواشنطن باتت ترى (وتحضر نفسها) إن إعلان الجيش السوري لبسط سيطرته على كامل حلب قد بات أمراً واقعاً وهي لا تريد أن يحدث أمراً على هذه الدرجة من الأهمية في الوقت الذي تنشط فيه ديبلوماسيتها مع الروس الأمر الذي يمثل إحراجاً لها أمام حلفائها وكذلك يشير إلى عجز السياسة الذي ينجم عن سوء إدارة القدرات لتحقيق مكاسب معينة ولا أدل على ذلك من تصريحات دي ميستورا يوم الجمعة 7/10/2016 التي اقترح فيها على الفصائل المسلحة في حلب الشرقية الانسحاب منها بعد أن أعرب عن استعداده لمرافقتهم إلى ملاذات آمنة، فالمبعوث الأممي يدار بدرجة كبيرة من الولايات المتحدة وهو لم يقل ما قاله إلا بضوء أخضر أميركي ولربما كان الفرنسيون أنفسهم قد وصلوا إلى القناعات نفسها وهو ما انعكس في مشروع القرار الذي تقدموا به (مع الإسبان) إلى مجلس الأمن بالتزامن مع مشروع قرار روسي وإن كانت بعض القضايا الخلافية قد أدت إلى نسف المشروعين 8/10/2016 إلا أن اللافت في الأمر كان في تصويت مصر لمصلحة مشروع القرار الروسي.
بعد أن فقدت طبخة صواريخ ستينغر نكهتها التي لم تدم أكثر من يوم واحد اختيرت برلين هذه المرة للتصعيد، فقد أصدر مركز الدراسات الألماني مساء 4/10/2016 تقريراً تفصيلياً على درجة عالية من الأهمية وهو يشير إلى إمكانية قيام حلف الناتو باستهداف مواقع مهمة للجيش السوري (مطارات، غرف عمليات، استهداف قيادات ميدانية) واللافت في الأمر أن التقرير يذكر أدق التفاصيل في الخطة الموضوعة.
تزامن التقرير الألماني مع تقرير نشرته الواشنطن بوست في اليوم نفسه 4/10/2016 وهو يحمل المعطيات نفسها إلا أن نظرة متأنية للوقائع ترجح صعوبة أن تقدم الولايات المتحدة على عمل عسكري «جنوني» من هذا النوع فهو من جهة لا يملك المبررات القانونية للقيام به «كان جون كيري في حديثه المسرب 22/9/2016 مع المعارضة السورية قد ركز على هذه الناحية» ومن جهة أخرى فإن الذهاب في هذا المسار سوف يفضي إلى مواجهة حتمية مع الروس في سورية، لكن وعلى الرغم من ذلك فإن طريقة تعاطي موسكو مع تلك التقارير التي توحي وكأنها حاصلة غداً لا محالة تجبر المتابع على التفكير بطريقة أخرى مغايرة وإعطاء هذه الأخيرة شيئاً من الجدية، فاللافت في الأمر هو ذهاب الروس نحو تصعيد بالتأكيد لم يكن الغرب يتوقع وصوله إلى الحدود التي وصل إليها فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية 7/10/2016 بتصريح لا لبس فيه: «إن صواريخ إس إس 300 سوف تقوم بإسقاط الطائرات الأميركية المغيرة على مواقع الجيش السوري» وهذه التصريحات كانت قد تزامنت مع حشود عسكرية روسية في المنطقة غير مسبوقة، ففي غضون الأيام العشرة الأخيرة تم الإعلان عن دخول حاملة الطائرات (أميرال كوزنتيسيوف) ومن ثم دخول مدمرتين حاملتين لصواريخ كاليبر الاستراتيجية بالتزامن مع الإعلان عن نشر بطاريتي صواريخ إس إس 300 في نسختها الرابعة الأحدث التي تتمتع بنظام راداري يبلغ مداه 200 كم وهي قادرة على إسقاط الصواريخ- كما الطائرات- عن بعد 150 كم، ليتوج ذلك كله تصديق مجلس الدوما الروسي 7/10/2016 على قرار يسمح بنشر قوة جوية روسية في سورية بشكل دائم بعد أن كان البلدان قد قاما بتوقيع الاتفاق ذي الصلة في 26/8/2016.
المشكلة في نوع كهذا من السيناريوهات أنه ما إن ظهر إلى العلن وأصبح واقعاًَ فهو لا يندثر أو تزول آثاره حتى ولو تم التراجع عنه فالسهم الذي يخرج من القوس لن يستطيع العودة إليه بالتأكيد فأن تذهب قوة عظمى إلى إثارة سيناريوهات كهذه (حتى ولو لم يكن ذلك عبر قنوات رسمية) ثم تضطر إلى التراجع عنها لأي اعتبارات كانت (والأخطر إذا ما اضطرت إلى التراجع عبر تهديد قوة أخرى) فذاك أمر من الصعب أن يمر مرور الكرام ولسوف تكون له تداعياته على العلاقة بين القوتين العظميين وعلى الداخل السوري أيضاً والخشية هي أن نكون أمام صراع قد تحوّل إلى صراع إرادات كذلك الذي كان يحكم القوتين على امتداد الحرب الباردة (1949- 1989) والذي كان يمثل الدافع «الخفي» على الدوام لجميع الصراعات أو الأزمات التي لا تملك المبررات الاقتصادية أو السياسية لقيامها أو احتدامها والراجح أن الأرضية السياسية لقيام هذا الصراع قد باتت متوافرة، فروسيا ساعية بشكل واضح نحو استعادة أمجادها السابقة وهو قرار لا تراجع فيه كما يبدو وهي تصرّ على أن تكون دولة كبرى مهابة الجانب وباعتراف غربي أيضاً، في حين أن الاستراتيجيا الأميركية تبدو أكثر صدامية من تلك التي كانت سائدة في الستينيات أو السبعينيات فنظرية «الانسحاب» التي أرساها باراك أوباما والمرشحة للاستمرار من بعده والتي تعني طي المظلة الأميركية عن كثير من الدول أو الأنظمة التي كانت تحميها لا تعني إطلاقاً التراجع ولربما يمكن إضاءتها عبر نظرية زبينغو بريجنسكي الجديدة التي يرى فيها أن على الولايات المتحدة أن تعمل على تنظيم عمل روسيا والصين وقوى إقليمية ومن ثم سد الفراغ الحاصل نتيجة الانسحابات الأميركية وإلزامهم بإنجاز ما هو مطلوب منهم أميركياً، وتلك بالتأكيد نظرية صدامية سوف تلقى ردوداً صدامية من أطراف عدة.
ميدانياً معركة حلب في خواتيمها والقوى الفاعلة في الأزمة السورية جميعها تنتظر الإعلان عنها ولربما تلك فرصة سانحة لكي تعيد المعارضة السورية حساباتها من جديد وأن تعترف فعلياً بأنها تعرضت للتضليل وهي تقول ذلك مواربة. ظهر ذلك في رد رئيس الائتلاف المعارض أنس العبدة على اقتراح دي ميستورا السابق الذكر 7/10/2016 عندما شن (العبدة) هجوماً شرساً على المبعوث الأممي في الوقت الذي كان يقصد في هجومه الولايات المتحدة إلا أن ضيق اليد قد أدى إلى استهداف دي ميستورا الذي لا حول له ولا قوة وتلك بالتأكيد «فشة خلق» أكثر منها مواقف سياسية فاعلة أو منفعلة بما يجري، ولمن يريد أن يرى الصورة التي يرسمها المشهد السوري الراهن فإن ذلك يُظهر حالة رجحان فاقعة لكفة الجيش والدولة السوريين وفي ظل ذلك يجب أن تتحمل المعارضة السورية مسؤوليتها التاريخية فتذهب نحو تسوية تحقن الدماء وتوقف الدمار فأن تخرج لفعل أمر أو لتحقيق شيء ويثبت أنك غير أهل لما خرجت إليه أو أن الظروف غير سانحة لذلك الخروج وتستمر في التعامي عن فهم الحقائق فأنت من دون أدنى شك تتحمل مسؤولية إراقة الدماء وكل هذا الدمار.
وفي الشمال السوري توغلت القوات التركية لمسافة 30 كم في ريف حلب الشمالي وقد أضحت على مسافة 50 كم من حلب إلا أن ذلك لا يعني بالتأكيد أن وجهة تلك القوات القادمة سوف تكون للسيطرة على حلب فالأمر محكوم بتفاهمات روسية- إيرانية من جهة وتركية من جهة أخرى ولربما كان تقييد الأيدي التركية في حلب هو الذي دفع بها (وبفصائلها) إلى إشعال معركة وسط سورية (حماة وريفها) المرشحة للاستعار في الأيام القادمة بعد أن تم الإعلان عن تزويد فصائل المعارضة بصواريخ غراد بعيدة المدى (مداها 40 كم) بعد أن كان الجيل السابق منها بمدى لا يزيد على 20 كم في محاولة لإذكاء نار حروب المدن وضرب التجمعات السكانية الكبرى وهو ما يمكن أن يحدث صخباً كبيراً على المستويين الداخلي والدولي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن